ابو شهد:سيميائية الكآبة

قراءة في (كم تبقى لنا ..؟) للشاعر : مهتدي مصطفى غالب

أ.د :إلياس خلف

يدرك المتأمل في هذه الكلمات الشعرية التي أسماها شاعرنا (كم تبقى لنا ؟) أن شبح الكآبة يكلُّلها ، فاسم الشاعر و عنوان مجموعته الشعرية هذه اللذان يظهران على دفتي هذا الديوان الشعري يبرزان إشارة قرائية لأنهما كتبا بخط ذي حروف مليئة بالانكسارات و التعرجات و الالتواءات التي تكتسب أهمية سيميائية ترمز إلى أجواء الخيبة و الإحباط التي تخنق روح الشاعر فتأخذ تتطاير شظايا(1)، و تتكاثف العلامات السيميائية حين يوظف شاعرنا علامات ترقيم تكشف ما يعتمل في أعماقه من مشاعر و أحاسيس ، فعنوان المجموعة متبوع بنقطة ، و هذه النقطة تنم على صمت الشاعر الذي يتخلله تساؤل عميق تظهره علامة الاستفهام التي تلي تلك النقطة ، و يشوب شاعرنا تساؤله هذا بحيرته التي تتبدى في ظلال إشارة التعجب التي تتبع علامة الإستفهام ، و يمتن شاعرنا مهتدي مصطفى غالب سيميائية مجموعته الشعرية هذه حين يوظف ما يعرف بعتبات النصّ ، التي تحدث عن أهميتها الدلالية الناقد الفرنسي :(جيرار جينيت) ، في كتابه الشهير : (عتبات)(2).

و((الإهداء)) الذي يتصدر هذه الحسرات الشعرية يتجلى بوصفه عتبة نصية تعيننا على ولوج بوابة هذا الديوان 🙁 الشاعر

يكتب عن الأشياء الجميلة حلماً أو واقعا ً ) (ص5)(3)

و لكن سرعان ما يتذكر شاعرنا أن هذا الكون الرماد ( خاوٍ) من الجمال ، فيتساءل بحيرة شديدة 🙁 و أية أشياء جميلة لدينا حلماً أو واقعاً) (ص5) ، لذا يزمع شاعرنا إهداء آهاته الشعرية:

( إلى الجمال الذي افتقدناه) و يتنهد قائلاً : ( أبكي القباحة ) .

و ما من شك في أنَّ الجمال يرمز إلى الحياة الإنسانية الحقَّة التي تقوم على القيم النبيلة التي تتمثل في الصدق و المحبة و العدل ، و تتبدى جمالية هذه الحياة الإنسانية الفاضلة في ظلال ثنائية ضدية : عالم أهل القلوب الرهيفة وعالم الرجل النواس ، فأما عالم أهل القلوب الطيبة فهو مسكون بالحبِّ الصرف:حبّ الإنسان لأخيه الإنسان و حبّ الطبيعة و مخلوقاتها برمتها:

(نحن أهل القلوب الطيبة …

بهدوء نتعذب …

و نحترق ..

و نموت …

حين نعرف أنَّ الطير لا يهتدي إلى سكنه

و الطلقة خرجت من فوهتها) (ص68)

و يمضي شاعرنا قدماً فيتغنى بأمارات عالم أهل القلوب الرهيفة و جمالياته الثرّة التي تقوم على الحبِّ الحقِّ :

(نحن أهل القلوب الرهيفة

نتمتع بالقهوة و القبلات …

و بزرقة السماء

و خضرة الأشجار و العشب

و القلوب الطيبة مثلنا) (ص68-69)

و يرتسم العالم الآخر في عالم القباحة ، ذلك ( العالم الفسيح للقتل)(ص69) ،و عالم القباحة و القتل هذا هو عالم هذا العصر:

(في هذا العصر

لا ..لا .. لا مكان للنقاء

كلُّ الأمكنة للزيف) (ص 110)

و يستهجن أهل عالم الزيف هذا كلَّ من يتمسك بالفضائل السامية :

( هل الرجل الطيب .. مغفل ؟!

هل الرجل النظيف .. مغفل ؟!

هل الرجل المبدئي .. مغفل ؟! ) (ص98)

و بطل عالم الزيف هو: (الرجل النواس)(ص98) (هل) يقول الشاعر متسائلاً بلهجة الاستغراب:

( …الرجل النوّاس هو البطل ؟!) أجل إنَّ هذا الرجل المتقلب هو البطل العصري ، فهو:

( يُغَرِّبُ مع المغربين

يُشَرِّق مع المشرقين

هذا الرجلُ النوّاسُ ..

الرايةُ و الرأفةُ ..

الكلماتُ

البراقةُ

المتلاصقةُ كالحجارةِ بجدارٍ أثريٍ

هذا الرجلُ النوّاسُ ..

هو البطلُ العصريُ

هو الخالقُ المغيِّرُ وجهَ الكونِ)(ص98-99)

و في ضوء غياب الحبّ و الجمال يرى شاعرنا أنَّ الكون خاوٍ على عروش ، فتسوَّدُّ الحياة أمام ناظريه و يستسلم لأحاسيسه السوداوية :

( لم يأتِ المطرُ باكراً هذا العام

و أيلولُ ذَبُلَتْ أوراقه

لم يأتِ القمر هذا المساء

و الليلُ اتشَّحَ العتمةَ …

و ذهب إلى قلبي

لم تأتِ الرائعةُ أنتِ …هذا الحبّ ..

و أنا أفردتُ قلبي لكِ

و يعمُّ الكونَ الخواءُ

لا مطرْ …

لا قمرْ …

لا رائعة ْ..

و يستوطنُ أعصابيَّ طحلبُ الكآبةِ .)(ص73-74)

إذاً، فالكآبة و السوداء تستوطنان أعصاب شاعرنا بوصفه واحداً من ذوي القلوب الرهيفة ، فهو لا يبغي سوى الحبَّ الحقيقي الدائم ، تتمظهر في ظلال ثنائية ضدية أخرى ، و تتضح هذه الثنائية في موضوعة الحبّ ذاته :الحبُّ المسخَّرُ لتلبية حاجات مادية و اجتماعية و شهوانية ، و الحبُّ بوصفه أسُّ الحياة الإنسانية و غايتها:

(يبحثون عن امرأةٍ …..

زوجة ًاقتصادياً

زوجة ًاجتماعياً

زوجة ً جسدياً

و أبحث عن امرأةٍ .. حياة

أعيش معه لحظة حبٍّ سرمدية ) (ص92)

و لكن هيهات و هيهات ! فلن يحد ضالته في هذا العالم المتصحر الياب:

(… الصحارى فيَّ معرِّشةٌ

لا واحة ْ..

لا ماءْ ..

لا عذوبةْ ..

لا موجْ ..

لا ليلْ ..

و حتى ..لا ذئابْ

هو العدمُ

و الفراغُ

فيَّ حتى الرغاب) (ص62)

لذا لا غَرْوَ في أن نجدَ شاعرنا يهربُ من ضوضاء الحياة المادية و زيفها ، و يحنُّ للإبتسام ، الذي يرمز إلى بساطة الحياة في الماضي السعيد حين عمَّ الحبُّ و الصدقُ و الجمالُ بين الناس:

( أفتتحُ العامَ بالحنينِ للابتسامْ

أفتتحُ الزَّمنَ القادمّ كهذا الوقتِ و الصّباحِ

أغسلهُ من وحولِ السَّادةِ و وُرشِ التصويجِ و الديكور

و أمضي خلفهُ كالتابعِ أردِّدُ ما يمليهِ عليَّ

و وجهي يَفِرُّ من جسدي ) (ص10)

تبرز هذه الوحول و ورش التصويج و الديكور علامات سيميائية تعكس مادية هذا العالم الذي يرزح تحت براثنه الفتاكة ، و تَمثَّلَ مأساة شاعرنا النفسية و الجسدية مأساة الكون برمته، فوجهه مسرحٌ للكآبة :

( ما هذا وجهي ..

بل ركامُ سأم ٍ و خوفْ) (ص10)

و الكآبة تعمُّ الكونَ بأسره :

(الليلُ لا ينامْ

الخمرُ لا ينامْ

الغيمُ لا ينامْ

و هذه الدموعُ الغزيرةُ لا تنامْ

و هذا القلبُ المؤودُ لا ينامْ

قلاعٌ من الكآبةِ تطوِّقُ العالمَ بالأملاحْ) (ص58)

ترمز صورة التطويق هذه إلى فكرة محاصرة (قلاع الكآبة) لروح الشاعر الرهيفة ، فتحسُّ بالاختناق من أعماقها ، تتبدى مأساة الاختناق في عبارتي 🙁 جفاف في الحلق) و (غصةٌ في الأوردة) (ص19) تعكس هاتان الصورتان أنين روح شاعرنا التي توشك على الموت بسبب غياب الحبِّ عنها 🙁 هذه الروحُ لا تخصبُ … إلا بالحبِّ ) (ص60)

و لكن الحبّ الصادق فرَّ من هذا الكون ، لذا يحسُّ الشاعر بإفول حياته :

( وجهُكِ رائعٌ ..

و الحبُّ خَلْفَ ألفِ ، ألفِ ، ألفِ ..وقت

وجهكِ رائعٌ

و وجهي للذبولْ

خمراً عتقتُهُ ..

هذا القلب

و جسداً للإفولْ) (ص60-61)

و تجدر الإشارة هنا إلى أن ثيمة الأفول هذه تتبدى في ظلال العنوانات الفرعية التي يوظفها شاعرنا لتكون عتبة نصية و إشارة قرائية تعين القارئ على ولوج عالم هذه المحطات الشعرية ، فعنوان القصيدة الأولى : (هذا العام كالأمس ) التي يفتتح بها باقته الشعرية الأولى (كي نلتقي)، يبرز إيقونة يميائية تحمل في طياتها صوراً ترمز إلى رتابة الحياة و ركودها :

( قلتُ أُحبُّكِ ..

وهل للأشياء طعم ..

إلا الضجيج

جحيمٌ مِنَ الضجرِ و الإستهلاك

في قلبنا

و المواقيتُ تأخذنا صوبَ الأفولِ

(مستنقعاتٌ غريبةٌ) من الخوفِ

تحيطُ بنا كالهواءِ أو الماءِ أو الهلامْ ) (ص11)

و عنوان قصيدة ( إنسان) علامة سيميائية تعكس ضجر بطل هذه الحسرة الشعرية الذي يعيش على مستنقع العصر ، و يئن تحت وطأة الضجر:

(و في القلبِ

إنسانٌ يزداد غرقاً

بصمغِ الضجر) (ص13)

تدل صورة (صمغ الضجر) على فكرة تطويق الكآبة لروح الشاعر ، التي تحيط بها ( مستنقعات غريبة) من كلّ صوب ، كما رأينا .

و في القصيدة الموسومة ب (رصاصة) تتخذ الكآبة طابع الضجر الذي يؤدي إلى (النوم المُتْعِب) ، لا النوم الهنيء الذي تتخلله الأحلام السعيدة ، (هل) يتسأل الشاعر:

( تناسيتِ ما بيننا ..

و ذهبتِ صوبَ الإستلقاء

و النوم المُتعِبِ

فكشَّرَ عن نابيه

كالصباح الراعد

.. و أطلقَ في جسمينا رصاصة ) (ص16)

تنطوي صور (تكشير النابين) و(الصباح الراعد) و إطلاق ( الرصاصة) على إنكسار ذات الشاعر بعد أن طنَّبت بها الكآبة و السوداء .

و تجعل الكآبة شاعرنا يتتوق إلى الموت فيراه جميلاً ، بل الأجمل، كما يشير عنوان قصيدته ( الأجمل) ، و التي يستهلها بالإشارة إلى النوم المتعب :

( أمسح وجهي بفرشاة الاستيقاظ

ترى عيوني الصباح كالغروب…

و تحنُّ للنعاس ) (ص17)

إنَّ الحنين للنعاس ما هو إلا فرار من ( مستنقع العصر) إلى الموت :

( و أجمل الطلقات ..

ما شقَّت صدرينا

…و أوصلتنا للقبر بهدوء و سعادة ) (ص17)

و يوظف الشاعر عنوان قصيدته (غرق) فيغدو عتبة نصية ذات أثر سيميائي قرائي مهم ، إذ إنه يشير إلى عبثية النشاط الإنساني في عالم الضجر و الإستهلاك هذا :

( السيف لم يَعُدْ مجدياً

في يدِ الفارس

الشِّعرُ لَمْ يَعُدْ مهماً

في قلبِ القارئ

القبلةُ فقدتْ لذتها

بين العاشقينْ ) (ص18)

و تتاكثف دلالة الكآبة حين نرى أنَّ الموتَ ذاته سئمَ هذا ( الكون الرماد) و آثر أن يغرق في القلوب المنكسرة :

( الموت لم يعُد إلينا هذا المساء

هل أخذهُ أحدُكم ؟!

أو تنصَّلَ منا

و رحلَ صوبَ هواجسهِ

ليغرقَ وحيداً

.. في هذه القلوبِ المتراكمةِ

كالأبنيةِ المنهارةِ ) (ص18)

و أما قصيدة (حفنة ماء) فإنها تندرج ضمن هذه الضجريات الشعرية ، إذ إنها تصوِّر كابوس الاختناق الذي يربض على قلب شاعرنا:

( جفافٌ في الحلق ..

غصَّةٌ في الأوردة

طرقات لا يَحُدُّها المدى و لا التراب

غبارٌ هذه الحياة ..

و القلب غبار) (ص19)

و على غرار قصيدته ( حفنة ماء) ، تعنى قصيدة

ُ ( لقاء) بفكرة الاستحالة أو استحالة اللقاء هنا ، و ما هذه الاستحالة إلا تعبير عن مشاعر الأسى و الضجر التي تسكن شاعرنا :

( ذهبتُ

لألقاكِ هذا الصباح

لكن طريقُكِ

كانت قاحلة ً

و قلبُكِ

لم يَكُنْ على الباب

أخرجتُ كفِّي مني

.. و ذهبت …. لوقت آخر) (ص20)

و يؤكد عنوان القصيدة المسماة (شتاء) فكرة الأفول و الخدر اللذين يبرزان سمتين سيمائيتين من سمات الكآبة ، فالشراب لا يؤدي إلى حالة انتشاء و انتقال إاة الأحلام المنشودة ، بل يثير الخدر و السبات في نفس شاربه :

(يبدأُ الكأسُ بحافتهِ الذابلةِ

ينتهي بآخرَ رشفةٍ من هذه الروحِ الفارةِ

صوبَ الخَدَرْ ) (ص21)

تدلُّ صورة الذبول و الخدر على أنَّ شاعرا يلوذ بالشراب فراراً من جاثوم الكآبة الذي يقُضُّ عليه مضجعه :

( هي كأس …

نشربها …

و نقف على آخر العالم

من يشبك راحتيه حول القلب ؟!

و يأخذه صوب الجلْطةِ

هي آخر كأس …)(ص21)

تكتنف عبارة من يشبك راحتيه حول القلب ، فكرة المحاصرة و التطويق التي ترمز إلى الكآبة و ارتغاب الموت .

و تشير القراءة المتأنية أنَّ خواتم هذه المجموعة الشعرية ، على غرار فواتحها ن تزخر بموضوعة الكآبة و السوداء ن ففي (بقايا الروح ) و ( نهائيات) التي كُتِبَتْ ، كما يؤكد شاعرنا ، (في فترات متفرقة كشظايا من روح متعبة تطايرت شاردة تبحث عن جسدها)، يسعى شاعرنا أن يستظلَّ بحبٍّ يرى فيه نهاية لكابوس كآبته هذا :

( كلُّ الأوقات تدعوني

للتوجه صوبك

و أنت تعاركين أنياب الخيبة

و حين لا يتسع عالمك لقلبينا

أحملك بقلبي كالنورس …

أزفُّكِ عروساً للحبِّ )(ص132)

وهذا الحبُّ هو جلّ ما يبغيه ، لأنّه سرُّ نجاته و خلاصه من براثن الكآبة و التشاؤم :

( ذاهبٌ إليك ِ

ذاهبٌ إلى الموت على ضفةِ شفتيكِ

أكبُ عمري خمراً معتقاً

و حين أشعر بالسُّكرِ

أقفز إليكِ

يا حمامة الضوء …

ذاهبٌ إليكِ

و حين أصلُكِ

من كفّينا يولدُ اللقاء ..)(ص132-133)

و هذا المشهدُ الدراميُ مسرحة لبوحه الشعري المعنون ب ( أحبُّكِ) ، الذي يمثل فرحة الخلاص من شبح الوحدة و الكآبة ، و الإقبال على الحياة و الحبِّ الصادق :

( وجهكِ قبلةٌ ..

ابتسامتُكِ عمرٌ

يداكِ سفينتان

صوبَ الشواطئ

تجرجران قلبي

و على ضفافِ الغبار

يرفع الرَّمادُ جثته

عن جسمي

و يبدأُ الماءُ

أنت الماء … )(ص133)

و غنيٌ عن الذكرِ هنا أنَّ الماءَ يرمزُ إلى الحياة و الخضرة و التجدد :

( أنتِ هذه الضفافُ

و الروابي الخارجة على صدري شموعاً

و غيومَ لا تشحُّ

تنضُّ الماءَ عن مجهِ السماء

على الأرض ترشه أعشاباً

و شقائق قمر)(134)

و يرسم شاعرنا هذا الحبَّ الجميل في ظلال ثنائية ( الأرض ) و ( الماء) ، فكما الأرض تتعطشُ للماء الذي يبعث الحياة فيها ، يتوقُ شاعرُنا إلى امرأة تُنهي كآبتهُ و تجعل الحياة تدبُّ في أوصالهِ من جديد :

(وجهك .. أنا ..

و أنا الأرضُ

و أنتِ الماءُ

أحبُّكِ هذا المساء

أحبُّكِ المساء الماضي

أحبك المساء الآتي

من بوابة الماء

أحبُّكِ .. أحبُّكِ … أحبُّكِ …)(ص134)

بيد أنَّ محاولات شاعرنا تبوء بالفشل الذريع ، فالمرأة التي تستوطنُ هذا الفضاء الشعري ما هي إلا سراب،لأنَّ فضائل الأنوثة الحقة غدت حبيسة الكتب و التراث فقط ، و هذا تُفْصِحُ عنه حسرتُهُ الشعرية التي حملت عنوان (سراب) ليرمزَ سيميائياً إلى الأفول :

( كانت ..

و قلبي البحرُ القتيلُ

لا أشتكي غدرها ….

شبحُ امرأةٍ … و لا امرأة ..

تمثالُ شمعٍ ذابَ حينَ الصقيع

كانت ؟! ..كانت ؟!..

و يا ويلها …

حينَ تنطفئ هذه الشعلة

في جانحي

و يأخذها الوقت

للسراب و النسيان )(ص152)

تشكلُ عبارات ( شبح امرأة ) و ( و تمثال شمع ذاب حين الصقيع) إيقونةً سيميائية خالية من خصال العفاف و الإخلاص الأنثويين ن و هذا الخواء ما جعلها سراباً …. و نسياً منسيا.

و في ظلال خيبته الكبيرة هذه ، يرسم شاعرنا أفول حياته ، فالمرأة الحب ، المرأة الخلاص ، المرأة الحلم (فرت من صقيع هذا الفضاء الرحب)(ص34) يستسلم شاعرنا و يعلن انسحابه من معركة الحياة بعد أن احترق بلظى رمضائها ، و بلسان جريح يسطر مأساته المفجعة هذه :

(و أخيراً …

احترقت يا صديقي مهتدي مصطفى غالب )(ص155)

و هنا يتذكر شاعرنا مشهدية من التراث التراجيدي العالمي ، إنها مشهدية حرق نيرون لروما أمه المجازية ، إلا أنَّ شاعرنا هو الضحية و ليس الجاني :

(غمست أصابعك بالنيران..

و أتيت بالدفء إلى قلبي

و روما لم تعد رومل …

هي بقية الروح الحزينة )(ص155)

و يدرك شاعرنا أن احتراقه هذا .. طريقه إلى (الرماد) أو (الفناء) :

(نيرون أنت ..

و قلبي هذه القصائد الموبوءة

تُرتلُ على حوافي التسكع …

هوَّمت حوله الظلال

كالروح

غزلت من أجفان القمر

سفناً ورقية

ترحلنا مع الريح

صوب الرماد

أو الفناء)(ص155-156)

و ببالغ الأسى يصل شاعرنا إلى عالم الرماد أو الفناء ، فيبوح بوحاً رقيقاً يعكس خيبته في هذه الحياة التي تبدو له بمنزلة (حجر ثقيل) يئن تحت وطأته ، و يرسم مأساته التي تتجلى في وحدته الفتاكة ، و غربته النفسية في صقيع (هذا العيش) :

( سأموت وحيداً

كما خُلِقْتُ و عِشتُ و مِتُّ ..

سأموت وحيداً …

لا صديق يولم لقلبي

أعشاب الدفء

لا امرأة تستوطن الرئة كالسل

حجرٌ ثقيلٌ هذا العيش

و سأموتُ وحيداً )(ص156)

تشير وحدة الشاعر إلى إحجامه عن الانخراط في البازارات الكبيرة التي يندد بها ، و إحجامه هذا موقف نبيل لأنه ينسجم و خلجات قلبه الرهيف الذي يأبى الزَّيف:

( سوقٌ للأحاديث التافهة

سوقٌ للمواقف الساقطة

سوقٌ للمبادئ المهترئة

سوقٌ للحبِّ ..

و قلبٌ ينتظرُ

من حقه الآن …

أن يموتَ بهدوء …)(ص121)

إنَّ تخيّر شاعرنا الوحدة و الموت دليلٌ على أنه يؤثر أن يتمسك برسالة الشعر الرفيعة ، فالشعر لديه ، رسالة حبٍّ يُخصِبُ الروحَ و يُنعشُ الفؤاد :

(أعمدُكِ بنبيذي

حين الخمر لا يفارق الكروم

و أنت منابع الليمون على هضابنا القاحلة

خُذيني إليكِ

حنين السهم للقنصِ

حنين القلب للدفءِ

حنين الجسد للمرأة )(ص137)

و حين لا تأتيه هذه المرأة المثال ، يتوقف قلبه عن النبض و يستسلم للموت و الأفول:

(حين تأتين و لا تأتين

دمي يقفُ حين الانتظار

يحملُ وجع السنين

و خمرة الشجر العابق

في جسدك

دفؤكِ يخرج إليَّ

و أنتِ ابتعاد القلب عن الجسدِ

و أنتِ رحيل الدَّمِ عن الخفقة

و أنت الطلقة ..

و أنت التذكارات )(ص137)

و بعد : هذه هي تجربة شاعرنا الرهيف مهتدي مصطفى غالب في صخب عالمنا و زيفه ، إنها وليدة إحساسه بغياب المودة الصادقة و تردّي العلاقات الإنسانية ، و لقد شفَّ هذا الإحساس العظيم شاعرنا و أضناه :

( قلبي مصابٌ بجروحٍ مزمنةٍ

لساني

يسقطُ من فمي

قبل أنْ يتعلمّ النطقَ)(ص35)

هذه هي مأساته المفجعة التي يأمل أن تُجسدها هذه الكلمات التي تبرز فاتحةً سيميائية لمعاناته الشديدة:

( … عبر عمرٍ يمضي

و لا نمضي معه ،

بل نتجلل … بانتظارٍ

سينتهي رغم أبديته )(ص9)

___________

الهوامش:

(1) جون ريفرز ، السيميائية بوصفها أداة نقدية ، لندن 1999- ص(12-18)

(2) جيرار جينيت ، عتبات ، باريس ، 1982 ، ص(8-10)

(3) مهتدي مصطفى غالب ، كم تبقى لنا ، دار بعل ، دمشق ، 2008 ص (5)

المزيد...
آخر الأخبار
الخارجية البريطانية: رفع 24 جهة من قائمة العقوبات الخاضعة لتجميد الأصول بموجب نظام العقوبات على سوري... مدير منطقة مصياف يجتمع وجهاء ريف مصياف لتعزيز التواصل في يومها الأخير، شهدت كليات جامعة حماة تقدم أكثر من 24,600 طالبة وطالب للامتحانات النظرية الرقابة التموينية في حماة تتابع جولاتها على الأسواق بحضور نائب المحافظ، لضبط المخالفات ومراقبة التزا... إعلانات الفداء ٦-٣-٢٠٢٥ العدد (٤٧٢) مخفر المحطة في مدينة حماة يلقي القبض على تاجر مخـ.ـدرات، حيث ضبط بحوزته كمية من الحبوب المخـ.ـدرة وم... جولة لفريق سلمية الجوال إلى قرية العلية، بمنطقة السعن لتقديم خدماته من صحة أطفال، وصحة إنجابية ومتاب... ضرورة تأمين مياه الشرب للريف الشمالي والغربي للمحافظة في إطار عمليات التعافي وتحسين الواقع الخدمي عملت فرقنا على إزالة أتربة وأوساخ من أمام ساحة مديرية كه... وزارة الأوقاف تطلق فعالية إلكترونية خاصة بطلاب الجامعات تحت عنوان "الخيمة الرمضانية"