ابو شهد:سيميائية الكآبة

قراءة في (كم تبقى لنا ..؟) للشاعر : مهتدي مصطفى غالب

أ.د :إلياس خلف

يدرك المتأمل في هذه الكلمات الشعرية التي أسماها شاعرنا (كم تبقى لنا ؟) أن شبح الكآبة يكلُّلها ، فاسم الشاعر و عنوان مجموعته الشعرية هذه اللذان يظهران على دفتي هذا الديوان الشعري يبرزان إشارة قرائية لأنهما كتبا بخط ذي حروف مليئة بالانكسارات و التعرجات و الالتواءات التي تكتسب أهمية سيميائية ترمز إلى أجواء الخيبة و الإحباط التي تخنق روح الشاعر فتأخذ تتطاير شظايا(1)، و تتكاثف العلامات السيميائية حين يوظف شاعرنا علامات ترقيم تكشف ما يعتمل في أعماقه من مشاعر و أحاسيس ، فعنوان المجموعة متبوع بنقطة ، و هذه النقطة تنم على صمت الشاعر الذي يتخلله تساؤل عميق تظهره علامة الاستفهام التي تلي تلك النقطة ، و يشوب شاعرنا تساؤله هذا بحيرته التي تتبدى في ظلال إشارة التعجب التي تتبع علامة الإستفهام ، و يمتن شاعرنا مهتدي مصطفى غالب سيميائية مجموعته الشعرية هذه حين يوظف ما يعرف بعتبات النصّ ، التي تحدث عن أهميتها الدلالية الناقد الفرنسي :(جيرار جينيت) ، في كتابه الشهير : (عتبات)(2).

و((الإهداء)) الذي يتصدر هذه الحسرات الشعرية يتجلى بوصفه عتبة نصية تعيننا على ولوج بوابة هذا الديوان 🙁 الشاعر

يكتب عن الأشياء الجميلة حلماً أو واقعا ً ) (ص5)(3)

و لكن سرعان ما يتذكر شاعرنا أن هذا الكون الرماد ( خاوٍ) من الجمال ، فيتساءل بحيرة شديدة 🙁 و أية أشياء جميلة لدينا حلماً أو واقعاً) (ص5) ، لذا يزمع شاعرنا إهداء آهاته الشعرية:

( إلى الجمال الذي افتقدناه) و يتنهد قائلاً : ( أبكي القباحة ) .

و ما من شك في أنَّ الجمال يرمز إلى الحياة الإنسانية الحقَّة التي تقوم على القيم النبيلة التي تتمثل في الصدق و المحبة و العدل ، و تتبدى جمالية هذه الحياة الإنسانية الفاضلة في ظلال ثنائية ضدية : عالم أهل القلوب الرهيفة وعالم الرجل النواس ، فأما عالم أهل القلوب الطيبة فهو مسكون بالحبِّ الصرف:حبّ الإنسان لأخيه الإنسان و حبّ الطبيعة و مخلوقاتها برمتها:

(نحن أهل القلوب الطيبة …

بهدوء نتعذب …

و نحترق ..

و نموت …

حين نعرف أنَّ الطير لا يهتدي إلى سكنه

و الطلقة خرجت من فوهتها) (ص68)

و يمضي شاعرنا قدماً فيتغنى بأمارات عالم أهل القلوب الرهيفة و جمالياته الثرّة التي تقوم على الحبِّ الحقِّ :

(نحن أهل القلوب الرهيفة

نتمتع بالقهوة و القبلات …

و بزرقة السماء

و خضرة الأشجار و العشب

و القلوب الطيبة مثلنا) (ص68-69)

و يرتسم العالم الآخر في عالم القباحة ، ذلك ( العالم الفسيح للقتل)(ص69) ،و عالم القباحة و القتل هذا هو عالم هذا العصر:

(في هذا العصر

لا ..لا .. لا مكان للنقاء

كلُّ الأمكنة للزيف) (ص 110)

و يستهجن أهل عالم الزيف هذا كلَّ من يتمسك بالفضائل السامية :

( هل الرجل الطيب .. مغفل ؟!

هل الرجل النظيف .. مغفل ؟!

هل الرجل المبدئي .. مغفل ؟! ) (ص98)

و بطل عالم الزيف هو: (الرجل النواس)(ص98) (هل) يقول الشاعر متسائلاً بلهجة الاستغراب:

( …الرجل النوّاس هو البطل ؟!) أجل إنَّ هذا الرجل المتقلب هو البطل العصري ، فهو:

( يُغَرِّبُ مع المغربين

يُشَرِّق مع المشرقين

هذا الرجلُ النوّاسُ ..

الرايةُ و الرأفةُ ..

الكلماتُ

البراقةُ

المتلاصقةُ كالحجارةِ بجدارٍ أثريٍ

هذا الرجلُ النوّاسُ ..

هو البطلُ العصريُ

هو الخالقُ المغيِّرُ وجهَ الكونِ)(ص98-99)

و في ضوء غياب الحبّ و الجمال يرى شاعرنا أنَّ الكون خاوٍ على عروش ، فتسوَّدُّ الحياة أمام ناظريه و يستسلم لأحاسيسه السوداوية :

( لم يأتِ المطرُ باكراً هذا العام

و أيلولُ ذَبُلَتْ أوراقه

لم يأتِ القمر هذا المساء

و الليلُ اتشَّحَ العتمةَ …

و ذهب إلى قلبي

لم تأتِ الرائعةُ أنتِ …هذا الحبّ ..

و أنا أفردتُ قلبي لكِ

و يعمُّ الكونَ الخواءُ

لا مطرْ …

لا قمرْ …

لا رائعة ْ..

و يستوطنُ أعصابيَّ طحلبُ الكآبةِ .)(ص73-74)

إذاً، فالكآبة و السوداء تستوطنان أعصاب شاعرنا بوصفه واحداً من ذوي القلوب الرهيفة ، فهو لا يبغي سوى الحبَّ الحقيقي الدائم ، تتمظهر في ظلال ثنائية ضدية أخرى ، و تتضح هذه الثنائية في موضوعة الحبّ ذاته :الحبُّ المسخَّرُ لتلبية حاجات مادية و اجتماعية و شهوانية ، و الحبُّ بوصفه أسُّ الحياة الإنسانية و غايتها:

(يبحثون عن امرأةٍ …..

زوجة ًاقتصادياً

زوجة ًاجتماعياً

زوجة ً جسدياً

و أبحث عن امرأةٍ .. حياة

أعيش معه لحظة حبٍّ سرمدية ) (ص92)

و لكن هيهات و هيهات ! فلن يحد ضالته في هذا العالم المتصحر الياب:

(… الصحارى فيَّ معرِّشةٌ

لا واحة ْ..

لا ماءْ ..

لا عذوبةْ ..

لا موجْ ..

لا ليلْ ..

و حتى ..لا ذئابْ

هو العدمُ

و الفراغُ

فيَّ حتى الرغاب) (ص62)

لذا لا غَرْوَ في أن نجدَ شاعرنا يهربُ من ضوضاء الحياة المادية و زيفها ، و يحنُّ للإبتسام ، الذي يرمز إلى بساطة الحياة في الماضي السعيد حين عمَّ الحبُّ و الصدقُ و الجمالُ بين الناس:

( أفتتحُ العامَ بالحنينِ للابتسامْ

أفتتحُ الزَّمنَ القادمّ كهذا الوقتِ و الصّباحِ

أغسلهُ من وحولِ السَّادةِ و وُرشِ التصويجِ و الديكور

و أمضي خلفهُ كالتابعِ أردِّدُ ما يمليهِ عليَّ

و وجهي يَفِرُّ من جسدي ) (ص10)

تبرز هذه الوحول و ورش التصويج و الديكور علامات سيميائية تعكس مادية هذا العالم الذي يرزح تحت براثنه الفتاكة ، و تَمثَّلَ مأساة شاعرنا النفسية و الجسدية مأساة الكون برمته، فوجهه مسرحٌ للكآبة :

( ما هذا وجهي ..

بل ركامُ سأم ٍ و خوفْ) (ص10)

و الكآبة تعمُّ الكونَ بأسره :

(الليلُ لا ينامْ

الخمرُ لا ينامْ

الغيمُ لا ينامْ

و هذه الدموعُ الغزيرةُ لا تنامْ

و هذا القلبُ المؤودُ لا ينامْ

قلاعٌ من الكآبةِ تطوِّقُ العالمَ بالأملاحْ) (ص58)

ترمز صورة التطويق هذه إلى فكرة محاصرة (قلاع الكآبة) لروح الشاعر الرهيفة ، فتحسُّ بالاختناق من أعماقها ، تتبدى مأساة الاختناق في عبارتي 🙁 جفاف في الحلق) و (غصةٌ في الأوردة) (ص19) تعكس هاتان الصورتان أنين روح شاعرنا التي توشك على الموت بسبب غياب الحبِّ عنها 🙁 هذه الروحُ لا تخصبُ … إلا بالحبِّ ) (ص60)

و لكن الحبّ الصادق فرَّ من هذا الكون ، لذا يحسُّ الشاعر بإفول حياته :

( وجهُكِ رائعٌ ..

و الحبُّ خَلْفَ ألفِ ، ألفِ ، ألفِ ..وقت

وجهكِ رائعٌ

و وجهي للذبولْ

خمراً عتقتُهُ ..

هذا القلب

و جسداً للإفولْ) (ص60-61)

و تجدر الإشارة هنا إلى أن ثيمة الأفول هذه تتبدى في ظلال العنوانات الفرعية التي يوظفها شاعرنا لتكون عتبة نصية و إشارة قرائية تعين القارئ على ولوج عالم هذه المحطات الشعرية ، فعنوان القصيدة الأولى : (هذا العام كالأمس ) التي يفتتح بها باقته الشعرية الأولى (كي نلتقي)، يبرز إيقونة يميائية تحمل في طياتها صوراً ترمز إلى رتابة الحياة و ركودها :

( قلتُ أُحبُّكِ ..

وهل للأشياء طعم ..

إلا الضجيج

جحيمٌ مِنَ الضجرِ و الإستهلاك

في قلبنا

و المواقيتُ تأخذنا صوبَ الأفولِ

(مستنقعاتٌ غريبةٌ) من الخوفِ

تحيطُ بنا كالهواءِ أو الماءِ أو الهلامْ ) (ص11)

و عنوان قصيدة ( إنسان) علامة سيميائية تعكس ضجر بطل هذه الحسرة الشعرية الذي يعيش على مستنقع العصر ، و يئن تحت وطأة الضجر:

(و في القلبِ

إنسانٌ يزداد غرقاً

بصمغِ الضجر) (ص13)

تدل صورة (صمغ الضجر) على فكرة تطويق الكآبة لروح الشاعر ، التي تحيط بها ( مستنقعات غريبة) من كلّ صوب ، كما رأينا .

و في القصيدة الموسومة ب (رصاصة) تتخذ الكآبة طابع الضجر الذي يؤدي إلى (النوم المُتْعِب) ، لا النوم الهنيء الذي تتخلله الأحلام السعيدة ، (هل) يتسأل الشاعر:

( تناسيتِ ما بيننا ..

و ذهبتِ صوبَ الإستلقاء

و النوم المُتعِبِ

فكشَّرَ عن نابيه

كالصباح الراعد

.. و أطلقَ في جسمينا رصاصة ) (ص16)

تنطوي صور (تكشير النابين) و(الصباح الراعد) و إطلاق ( الرصاصة) على إنكسار ذات الشاعر بعد أن طنَّبت بها الكآبة و السوداء .

و تجعل الكآبة شاعرنا يتتوق إلى الموت فيراه جميلاً ، بل الأجمل، كما يشير عنوان قصيدته ( الأجمل) ، و التي يستهلها بالإشارة إلى النوم المتعب :

( أمسح وجهي بفرشاة الاستيقاظ

ترى عيوني الصباح كالغروب…

و تحنُّ للنعاس ) (ص17)

إنَّ الحنين للنعاس ما هو إلا فرار من ( مستنقع العصر) إلى الموت :

( و أجمل الطلقات ..

ما شقَّت صدرينا

…و أوصلتنا للقبر بهدوء و سعادة ) (ص17)

و يوظف الشاعر عنوان قصيدته (غرق) فيغدو عتبة نصية ذات أثر سيميائي قرائي مهم ، إذ إنه يشير إلى عبثية النشاط الإنساني في عالم الضجر و الإستهلاك هذا :

( السيف لم يَعُدْ مجدياً

في يدِ الفارس

الشِّعرُ لَمْ يَعُدْ مهماً

في قلبِ القارئ

القبلةُ فقدتْ لذتها

بين العاشقينْ ) (ص18)

و تتاكثف دلالة الكآبة حين نرى أنَّ الموتَ ذاته سئمَ هذا ( الكون الرماد) و آثر أن يغرق في القلوب المنكسرة :

( الموت لم يعُد إلينا هذا المساء

هل أخذهُ أحدُكم ؟!

أو تنصَّلَ منا

و رحلَ صوبَ هواجسهِ

ليغرقَ وحيداً

.. في هذه القلوبِ المتراكمةِ

كالأبنيةِ المنهارةِ ) (ص18)

و أما قصيدة (حفنة ماء) فإنها تندرج ضمن هذه الضجريات الشعرية ، إذ إنها تصوِّر كابوس الاختناق الذي يربض على قلب شاعرنا:

( جفافٌ في الحلق ..

غصَّةٌ في الأوردة

طرقات لا يَحُدُّها المدى و لا التراب

غبارٌ هذه الحياة ..

و القلب غبار) (ص19)

و على غرار قصيدته ( حفنة ماء) ، تعنى قصيدة

ُ ( لقاء) بفكرة الاستحالة أو استحالة اللقاء هنا ، و ما هذه الاستحالة إلا تعبير عن مشاعر الأسى و الضجر التي تسكن شاعرنا :

( ذهبتُ

لألقاكِ هذا الصباح

لكن طريقُكِ

كانت قاحلة ً

و قلبُكِ

لم يَكُنْ على الباب

أخرجتُ كفِّي مني

.. و ذهبت …. لوقت آخر) (ص20)

و يؤكد عنوان القصيدة المسماة (شتاء) فكرة الأفول و الخدر اللذين يبرزان سمتين سيمائيتين من سمات الكآبة ، فالشراب لا يؤدي إلى حالة انتشاء و انتقال إاة الأحلام المنشودة ، بل يثير الخدر و السبات في نفس شاربه :

(يبدأُ الكأسُ بحافتهِ الذابلةِ

ينتهي بآخرَ رشفةٍ من هذه الروحِ الفارةِ

صوبَ الخَدَرْ ) (ص21)

تدلُّ صورة الذبول و الخدر على أنَّ شاعرا يلوذ بالشراب فراراً من جاثوم الكآبة الذي يقُضُّ عليه مضجعه :

( هي كأس …

نشربها …

و نقف على آخر العالم

من يشبك راحتيه حول القلب ؟!

و يأخذه صوب الجلْطةِ

هي آخر كأس …)(ص21)

تكتنف عبارة من يشبك راحتيه حول القلب ، فكرة المحاصرة و التطويق التي ترمز إلى الكآبة و ارتغاب الموت .

و تشير القراءة المتأنية أنَّ خواتم هذه المجموعة الشعرية ، على غرار فواتحها ن تزخر بموضوعة الكآبة و السوداء ن ففي (بقايا الروح ) و ( نهائيات) التي كُتِبَتْ ، كما يؤكد شاعرنا ، (في فترات متفرقة كشظايا من روح متعبة تطايرت شاردة تبحث عن جسدها)، يسعى شاعرنا أن يستظلَّ بحبٍّ يرى فيه نهاية لكابوس كآبته هذا :

( كلُّ الأوقات تدعوني

للتوجه صوبك

و أنت تعاركين أنياب الخيبة

و حين لا يتسع عالمك لقلبينا

أحملك بقلبي كالنورس …

أزفُّكِ عروساً للحبِّ )(ص132)

وهذا الحبُّ هو جلّ ما يبغيه ، لأنّه سرُّ نجاته و خلاصه من براثن الكآبة و التشاؤم :

( ذاهبٌ إليك ِ

ذاهبٌ إلى الموت على ضفةِ شفتيكِ

أكبُ عمري خمراً معتقاً

و حين أشعر بالسُّكرِ

أقفز إليكِ

يا حمامة الضوء …

ذاهبٌ إليكِ

و حين أصلُكِ

من كفّينا يولدُ اللقاء ..)(ص132-133)

و هذا المشهدُ الدراميُ مسرحة لبوحه الشعري المعنون ب ( أحبُّكِ) ، الذي يمثل فرحة الخلاص من شبح الوحدة و الكآبة ، و الإقبال على الحياة و الحبِّ الصادق :

( وجهكِ قبلةٌ ..

ابتسامتُكِ عمرٌ

يداكِ سفينتان

صوبَ الشواطئ

تجرجران قلبي

و على ضفافِ الغبار

يرفع الرَّمادُ جثته

عن جسمي

و يبدأُ الماءُ

أنت الماء … )(ص133)

و غنيٌ عن الذكرِ هنا أنَّ الماءَ يرمزُ إلى الحياة و الخضرة و التجدد :

( أنتِ هذه الضفافُ

و الروابي الخارجة على صدري شموعاً

و غيومَ لا تشحُّ

تنضُّ الماءَ عن مجهِ السماء

على الأرض ترشه أعشاباً

و شقائق قمر)(134)

و يرسم شاعرنا هذا الحبَّ الجميل في ظلال ثنائية ( الأرض ) و ( الماء) ، فكما الأرض تتعطشُ للماء الذي يبعث الحياة فيها ، يتوقُ شاعرُنا إلى امرأة تُنهي كآبتهُ و تجعل الحياة تدبُّ في أوصالهِ من جديد :

(وجهك .. أنا ..

و أنا الأرضُ

و أنتِ الماءُ

أحبُّكِ هذا المساء

أحبُّكِ المساء الماضي

أحبك المساء الآتي

من بوابة الماء

أحبُّكِ .. أحبُّكِ … أحبُّكِ …)(ص134)

بيد أنَّ محاولات شاعرنا تبوء بالفشل الذريع ، فالمرأة التي تستوطنُ هذا الفضاء الشعري ما هي إلا سراب،لأنَّ فضائل الأنوثة الحقة غدت حبيسة الكتب و التراث فقط ، و هذا تُفْصِحُ عنه حسرتُهُ الشعرية التي حملت عنوان (سراب) ليرمزَ سيميائياً إلى الأفول :

( كانت ..

و قلبي البحرُ القتيلُ

لا أشتكي غدرها ….

شبحُ امرأةٍ … و لا امرأة ..

تمثالُ شمعٍ ذابَ حينَ الصقيع

كانت ؟! ..كانت ؟!..

و يا ويلها …

حينَ تنطفئ هذه الشعلة

في جانحي

و يأخذها الوقت

للسراب و النسيان )(ص152)

تشكلُ عبارات ( شبح امرأة ) و ( و تمثال شمع ذاب حين الصقيع) إيقونةً سيميائية خالية من خصال العفاف و الإخلاص الأنثويين ن و هذا الخواء ما جعلها سراباً …. و نسياً منسيا.

و في ظلال خيبته الكبيرة هذه ، يرسم شاعرنا أفول حياته ، فالمرأة الحب ، المرأة الخلاص ، المرأة الحلم (فرت من صقيع هذا الفضاء الرحب)(ص34) يستسلم شاعرنا و يعلن انسحابه من معركة الحياة بعد أن احترق بلظى رمضائها ، و بلسان جريح يسطر مأساته المفجعة هذه :

(و أخيراً …

احترقت يا صديقي مهتدي مصطفى غالب )(ص155)

و هنا يتذكر شاعرنا مشهدية من التراث التراجيدي العالمي ، إنها مشهدية حرق نيرون لروما أمه المجازية ، إلا أنَّ شاعرنا هو الضحية و ليس الجاني :

(غمست أصابعك بالنيران..

و أتيت بالدفء إلى قلبي

و روما لم تعد رومل …

هي بقية الروح الحزينة )(ص155)

و يدرك شاعرنا أن احتراقه هذا .. طريقه إلى (الرماد) أو (الفناء) :

(نيرون أنت ..

و قلبي هذه القصائد الموبوءة

تُرتلُ على حوافي التسكع …

هوَّمت حوله الظلال

كالروح

غزلت من أجفان القمر

سفناً ورقية

ترحلنا مع الريح

صوب الرماد

أو الفناء)(ص155-156)

و ببالغ الأسى يصل شاعرنا إلى عالم الرماد أو الفناء ، فيبوح بوحاً رقيقاً يعكس خيبته في هذه الحياة التي تبدو له بمنزلة (حجر ثقيل) يئن تحت وطأته ، و يرسم مأساته التي تتجلى في وحدته الفتاكة ، و غربته النفسية في صقيع (هذا العيش) :

( سأموت وحيداً

كما خُلِقْتُ و عِشتُ و مِتُّ ..

سأموت وحيداً …

لا صديق يولم لقلبي

أعشاب الدفء

لا امرأة تستوطن الرئة كالسل

حجرٌ ثقيلٌ هذا العيش

و سأموتُ وحيداً )(ص156)

تشير وحدة الشاعر إلى إحجامه عن الانخراط في البازارات الكبيرة التي يندد بها ، و إحجامه هذا موقف نبيل لأنه ينسجم و خلجات قلبه الرهيف الذي يأبى الزَّيف:

( سوقٌ للأحاديث التافهة

سوقٌ للمواقف الساقطة

سوقٌ للمبادئ المهترئة

سوقٌ للحبِّ ..

و قلبٌ ينتظرُ

من حقه الآن …

أن يموتَ بهدوء …)(ص121)

إنَّ تخيّر شاعرنا الوحدة و الموت دليلٌ على أنه يؤثر أن يتمسك برسالة الشعر الرفيعة ، فالشعر لديه ، رسالة حبٍّ يُخصِبُ الروحَ و يُنعشُ الفؤاد :

(أعمدُكِ بنبيذي

حين الخمر لا يفارق الكروم

و أنت منابع الليمون على هضابنا القاحلة

خُذيني إليكِ

حنين السهم للقنصِ

حنين القلب للدفءِ

حنين الجسد للمرأة )(ص137)

و حين لا تأتيه هذه المرأة المثال ، يتوقف قلبه عن النبض و يستسلم للموت و الأفول:

(حين تأتين و لا تأتين

دمي يقفُ حين الانتظار

يحملُ وجع السنين

و خمرة الشجر العابق

في جسدك

دفؤكِ يخرج إليَّ

و أنتِ ابتعاد القلب عن الجسدِ

و أنتِ رحيل الدَّمِ عن الخفقة

و أنت الطلقة ..

و أنت التذكارات )(ص137)

و بعد : هذه هي تجربة شاعرنا الرهيف مهتدي مصطفى غالب في صخب عالمنا و زيفه ، إنها وليدة إحساسه بغياب المودة الصادقة و تردّي العلاقات الإنسانية ، و لقد شفَّ هذا الإحساس العظيم شاعرنا و أضناه :

( قلبي مصابٌ بجروحٍ مزمنةٍ

لساني

يسقطُ من فمي

قبل أنْ يتعلمّ النطقَ)(ص35)

هذه هي مأساته المفجعة التي يأمل أن تُجسدها هذه الكلمات التي تبرز فاتحةً سيميائية لمعاناته الشديدة:

( … عبر عمرٍ يمضي

و لا نمضي معه ،

بل نتجلل … بانتظارٍ

سينتهي رغم أبديته )(ص9)

___________

الهوامش:

(1) جون ريفرز ، السيميائية بوصفها أداة نقدية ، لندن 1999- ص(12-18)

(2) جيرار جينيت ، عتبات ، باريس ، 1982 ، ص(8-10)

(3) مهتدي مصطفى غالب ، كم تبقى لنا ، دار بعل ، دمشق ، 2008 ص (5)

المزيد...
آخر الأخبار