الفولاذ: من سلاح للدمار إلى أصيص للأزهار:حكاية السلام عند الشاعر باكير باكير أ.د. إلياس خلف

تتسم تجربة شاعرنا الأستاذ المربي الفاضل باكير محمود باكير بشفافية كبيرة لأن أشعاره الرقيقة ومضات من روحه الظمأى إلى كل ما هو إنساني وجميل في حياتنا. وتشير القراءة المتأنية إلى أن شاعرنا نذر أنفاس روحه وتنهداتها لأخيه الإنسان لعله يعود إلى رشده ويبتغي قيم الحق والخير حكماً، فتعود البشرية إلى الحياة الإنسانية التي نعمت بها سالف الدهر.

 تجلت نبضات روحه المتفائلة في ظلال هاجس العودة إلى الماضي الجميل وقيمه السامية الفاضلة. ويجدر التأكيد هنا أن هذا الهاجس يشكل خيطاً مجازياً يربط إبداعاته المنظومة (العشب البري، 2001) و(دروب الشجن، 2003) و(غربة الروح، 2005) و( خواطر قلم، 2010)، والمنثورة: ( صور من الماضي، 2008).(1) ويتبدى ذاك الماضي الجميل بأبهى صوره في إحدى خواطر قلمه النازف من قلبه ووجدانه(2), إنها خاطرة تعنى بقضية السلام التي أرقت الأدباء والمفكرين الإنسانيين على مر العصور، فهوميروس الإغريقي و أوفيد الروماني، على سبيل المثال، وقفا على أطلال عالم العصر الذهبي الدارسة، وصاغا بخيالهما الثريين فردوسين كلاسيكيين يمثلان الخلاص والسلام لبني آدم.(3)

 تقوم معمارية هذه الخاطرة على تقنية الثنائيات الضدية التي تدفع القارئ الحصيف إلى مقارنة نقيضين: عالم الجشع والحقد الذي يذكرنا بالعصر الحديدي حين استفحل الشر، ففرت الفضائل والقيم إلى عالم السماء الكلاسيكي الأسطوري، وعالم الوئام والسلام المنشود الذي يعيد إلى ذاكرتنا آلاء العصر الذهبي التي تغنت بها خيالات الشعراء المبدعين الكلاسيكيين لديمومتها وكثرتها وتنوعها.

 يستهل شاعرنا باكير خاطرته هذه باستلهام صورة الفولاذ الصلد الذي يرمز إلى العصر الحديدي، عصر الإجرام والدمار، فيوظف مفردات وصوراً ذات دلالات بشعة سلبية.

 قد يصخب الفولاذ فوق أزقتى ويجر أوتاد الخيام

قد يسحق الفولاذ نخلتي التي عايشتها

وسقيتها حتى علت وتسامقت نحو الغمام

قد يستبيح جدار بيتي يهدم الحجر الذي

رافقته وحميته من عصر جدي والجدود

ويترك الدنيا حطام. (ص. 153)

تنطوي المفردات (يصخب، ويسحق، ويستبيح ويهدم) وصورة( يجر أوتاد الخيام) على إبراز أثر الفولاذ التدميري، فهو يهدم الأزقة ويروع المارة، ويستبيح حرمة البيوت ويهدمها. ولعل المتأمل في هذه الصورة المفجعة يعي أن العدم يمثل طمساً لماضي الأجداد الذين كدوا فعمروا أراضيهم وزرعوا الأشجار ليأكلوا ثمرات ما قدمت أيديهم المعطاء.

 

فعلى غرار البيت، الذي ورثه شاعرنا من جده ورافقه وحماه منذ ذلك الحين، تبدو النخلة، التي عايشها وسقاها واعتنى بها حتى نمت وتسامقت، رمزاً لهويته وانتمائه إلى أرض أجداده، فجذور هذه النخلة ضاربة في الأرض وفروعها شامخة في السماء. وتتمظهر أهمية النخلة في ظلال صورتها القرآنية بوصفها الشجرة المباركة المقدسة التي أطعمت سيدة نساء البشر، مريم البتول عليها السلام، في أثناء اعتزالها عن قومها. ولا ضير في التأكيد هنا أن النخلة تحمل دلالات عروبية قومية لأن ثمارها من أطايب زاد العرب في شبه الجزيرة العربية وغيرها من البلاد العربية الأخرى. وصفوة القول هنا أن الفولاذ يبرز سلاحاً فتاكاً يرمي إلى اجتثاث هوية الآدميين ومحو علاماتهم على الأرض الذي خرجوا من رحمها وترعرعوا في كنفها.

 

ولكن سرعان ما تشع أنوار الشعرية في مخيلة شاعرنا باكير الخصبة، فيلمح بارقة أمل يأنس بها، فتجعله يدرك أن ذاك السلاح الفولاذي ذو طاقة محدودة ومؤقتة، لأنه لا يستطيع إخماد ثورة الإرادة التي تهب في النفس البشرية التي ذاقت ويلات الحروب وأهوالها الفظيعة. تتجلى طاقة الفولاذ المحدودة حين يوظف شاعرنا حرف (قد) ويكرره ثلاث مرات. ومعلوم أن الحرف ( قد)، حين يدخل على الفعل المضارع، يفيد الشك أو احتمال الوقوع، أو التقليل أو التكثير، وفي ضوء هذه الدلالات لهذا الحرف( قد) نرى أن شاعرنا يؤكد زوال آثار هذه الحروب، فالفولاذ

 

… لا يستطيع إزالة الأمل الذي

يبقى يدق نوافذ التاريخ

حتى ترجع الأرض التي سلبت وينتصر السلام.( ص. 154)

 

أجل، فالفولاذ ليس بقادر على قمع الإرادة الصلبة في نفس البشرية التي تلهج بتوقها إلى الحرية والسلام.

 

يرى شاعرنا باكير أن السلام هو حلم البشرية الرئيس، إنه نهاية المطاف بالنسبة إلى للأدباء والمفكرين الإنسانيي الأبعاد:

 

إن السلام حكاية لا تنتهي

كل يدغدغها ويحلم أنها أمل الأنام. (ص. 154)

 

تنطوي صورة “السلام” بوصفه “حكاية لا تنتهي” على إشارة شاعرنا إلى سعي الأدباء والمفكرين إلى إرساء أركان عالم اليوتوبيا الحلم، عالم الفضائل والقيم الإنسانية الحقة، ذلك العالم الذي دغدغه أفلاطون الإغريقي في جمهوريته وتاق إليه السير توماس مور البريطاني في يوتوبياه، وغيرها من الأدباء منذ الأزل.(4)

 

تدل مفردة “دغدغ” في صورة السلام بوصفه “حكاية” على تغيير لهجة شاعرنا إذ إنه تخلى عن تصوير الفولاذ وبطشه واستباحته لحرمات

الوطن ومقدساته، ولجوئه إلى كلمات تتناسب وسمو السلام، فكلمة “دغدغ” تحمل في طياتها معاني الرقة والدفء والألفة التي يمتاز بها كل من هو إنساني من أديب أو فنان أو مصلح اجتماعي. تزداد أهمية مفردة “دغدغ” بوصفها فاتحة مفردات الرقة والحب في حكاية السلام هذه لأنها تشكل الطرف النقيض في الثنائيات الضدية اللغوية لدى شاعرنا. وما شيوع مفردات الرقة والحب في ثنايا هذه الأنشودة إلا دلالة على انتصارها على لغة سطوة الفولاذ وجبروته وهمجيته.

 

فإذا رأيت الحب يسري في القلوب

وفي الدروب

ويزرع الورد الجميل على الجدار

وإذا عصافير البيوت تراقصت

وبنت بفوهة مدفع العدوان عشاً

للحياة وللصلاة وللطعام …(ص. 154)

 

تدل القراءة المتأنية على أن الحب بوصفه أسمى العواطف الإنسانية يتألق في النفس البشرية ثم يبعث وهجه “في الدروب”، التي ترمز إلى الآخرين في المجتمع، وتشير أيضاً إلى شاعرنا الذي يؤكد أن الطبيعة – أُمنا المعطاء- تسعد حين ترى أن الحب أخذ يسري في ثنايا النفوس، فترسل مخلوقاتها لتعلن احتفالها بعرس السلام: عرس الورود والأطيار.

 

تنطوي صورة بناء الأعشاش في فوهات “مدفع العدوان” على انتقال شاعرنا إلى الطرف الآخر في ثنائية: العصر الحديدي والعصر الذهبي التي تشكل قوام هذه الخاطرة الشعرية. تمثل هذه الأعشاش لب الحياة والنشاط الإنساني برمتهما، وتذكرنا بحياة أسلافنا في العصر الذهبي حين أحبوا بعضهم بعضاً وحمدوا آلهتهم وشكروا لهم نعمتهم التي لا تعد ولا تحصى، كما أكد الشاعر الإغريقي هيسيود رائعته الكلاسيكية (أيام وأعمال).(5)

 

ويمضي شاعرنا في رصد أعراس السلام المستقبلية، فيرصد أجواء لعب الأطفال ومرحهم:

 

وإذا رأيت طفولة الأيام تعبث

ثم تلعب فوق أشلاء الحديد… ( ص. 154-155)

يتضمن عبث الأطفال ولعبهم ولهوهم، فبالهم خلة من الخوف أو الهم، إذ لا شيء يعكر عيشهم إثر انتصار السلام على “الحديد” الذي وأد أحلامهم، وسرق ابتساماتهم وأزهق أرواحهم حين ساد سلطان العدوان والحروب.

 

ويتمظهر اندحار الفولاذ وبطشه في مشهدية غاية في الروعة والإيحاء:

 

وإذا رأيت الخوذة الفولاذ صارت

في حديقتا أصيصاً للورود يفوح منها العطر

يأتيها الفراش مغازلاً

والنحل يرتشف الرحيق كما المدام

فاعلم بأن تغير الأيام جاء

وسافر الشر الدفين وعم في الأرض السلام.( ص.155)

 

إن تحول “الخوذة الفولاذ” إلى ” أصيص للورود” صورة فنية جد مهمة، لأنها تعلن حتمية انتصار الطبيعة وجمالها وتآلفها الذين جذبوا الفراشات والنحل إلى ورودها وعبقها الفواح، بعد أن نفرت تلك المخلوقات البريئة من سموم قذائف الفولاذ التي نسفت أماكن إقامتها وخلفت تلوثاً بيئياً من بعدها.

 

إن لصورة ” الشر الدفين” طاقة قرائية بالغة الشأن، ذلك لأنها تشير إلى السوء المتجذر في أعماق النفس الأمارة بالسوء، وما سفر “الشر الدفين” إلا دلالة واضحة على اجتثاثه من جذوره إثر انتصار السلام الذي حل محله.

 

وخلاصة القول: إن انهزام الفولاذ أمام عرس الطبيعة وتآلف مكوناتها ذو طاقة إيحائية كثيفة في ظلال ثنائية “صخب الفولاذ وعنفه” و “عبق الورود و شدو الأطيار”، فالبقاء لقوى الطبيعة الخيرة المعطاء، ولا مكان للشر حين يسكن الوداد القلوب.

 

هذه هي حكاية السلام التي أنشدها شاعرنا باكير على قيثارة مخيلته الرومانسية الخصبة، فتبدت على سيماء وجهه وداعةً ورقةً ورزانةً وحلماً ووقاراً.

 

الحواشي:

 

باكير محمود باكير، خواطر قلم، دار الباحث للنشر والتوزيع، سلمية، 2010، ص. 170.

خواطر قلم، ص. 10

آلان رايتس، الأدب الكلاسيكي، لندن، 1990، ص. 100-130.

مالكم نورمانز، الأبعاد الإنسانية في الفكر الإنساني، واشنطن، 1994، ص. 30-37.

هيو روبنسون، الشعر الإغريقي الكلاسيكي، ليفربول، 1980، ص. 40-44.

 

 عهد رستم

المزيد...
آخر الأخبار