كثيرة هي الأسئلة الممعنة في النُبل والطيبة، أسئلة حاضرة بقوة في تفاصيل الحياة، تبحث عن إجابات شافية وافية، هي (من أسئلة الشعر والحب والحرب… من أسئلة الحياة) يطرحها الصديق الشاعر عباس حيروقة في مقالاته التي كان قد نشرها عبر زوايا صحفية على مدار سنوات، سلّط خلالها الضوء على قضايا وطنية، اجتماعية، أدبية، إنسانية….
هي أسئلة حيوية جريئة، أسئلة غير تقليدية، أسئلة الفكر والعقل والحياة… ولا يغيب عن مقالات الكتاب البعد النقدي التوجيهي مع مسحة جمالية يتداخل فيها السرد والشعر والحكاية والتأمل الروحي، وهذا يضيف أبعاداً جمالية جديدة تعكس ألق وإبداع النصوص التي بين دفتي الكتاب.
(من أسئلة الشعر والحب والحرب.. من أسئلة الحياة) يقع في (150)صفحة من القطع المتوسط، صدر عن دار المتن في العراق عام 2023
تتنوع العناوين وتتداخل في أسلوب جذاب يأخذ القارىء إلى عتبات التأمل والتفكر والبوح، بعيداً عن المباشرة، وكأننا أمام نصوص تقترب من تخوم الشعر… وهذا ما نلمسه في عدّة مقالات :
(كان أبي يضحك كألف طفل دفعة واحدة
أبي الذي في السماء
أبي الذي في الأرض) ص/15/
ويدعو الكاتب في أكثر من مكان إلى ممارسة التأمل كرياضة روحية تعطي الطاقة الإيجابية وتنبذ الطاقة السلبية، وتدفع بالإنسان للسير (على دروب الجمال.. الجلال)
ويرى الكاتب (أن التأمل ما هو إلّا تلك المنظومة التي تؤسس لعالم أكثر عدلاً وأمناً واطمئناناً.. لعالم ينبذ القبح والتخلف والفساد، ويعمل على تعزيز القيم والأخلاق.. ) ص/20/
ويضم الكتاب رؤىً نقدية للعديد من القضايا والظواهر الأدبية القديم منها، وما ظهر مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي والنشر الإلكتروني، ومن تلك المقالات الناقدة (للشعر بازاره… وللشعراء أيضاً، قصيدة النثر، في الثقافة والأسئلة الأهم، من أسئلة المشهد الثقافي،…)
ويتوقف الكاتب عند تجربة الملتقيات الأدبية والتي إنتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي بكثافة ، بعضها قدّم قيمة إبداعية مضافة واحتضن مواهب أدبية أخذ بيدها وقدمها بفرح للجمهور: (في السنوات القليلة الماضية ثمة ملتقيات نهضت، وتنامت وتطورت وحذت حذو مثيلاتها من ملتقيات ذاك الزمان. نعم عملت ْ على رسم اسمها بعيداً عن الأضواء والبهرجة لسبب بسيط جداً ألا وهو أن القائمين عليها كجهة إشرافية وإدارية هم من أهل أو أبناء الثقافة…. .) ص/103/
وبعضها الآخر لا يقدّم إلا الترهات والإساءة للغة والأدب، ولا يتوفر فيها الحد الأدنى من شروط الكتابة والنشر، وقد أتاح الفضاء الأزرق للجميع شهية الكتابة، مع غياب أية رقابة لضبط هذه الفوضى، يقول الكاتب (شهدنا وما زلنا نشهد ظاهرة انتشار الملتقيات والمنتديات الأدبية على شبكات التواصل الاجتماعي، أو ما يسمى بالعالم الافتراضي /الفيس بوك /هذا الذي أتاح وللجميع دون استثناء /صغاراً وكباراً /ممارسة المشتهى من فعل الكتابة والتدوين. .) ص /105/
ولأنها الخزان المفعم بالحنين، بالبراءة والنبل الطيبة، بالصدق والعفوية، يستعيد الكاتب حيروقة بعضاً من ألق الطفولة وجمالياتها وما يرافقها من شقاوة أحياناً، مرحلة الطفولة
المرتبطة بزمان ومكان محدّدين، تُعتبر من أهم ما يتكىء عليه المبدع سواء أكان شاعراً، كاتباً، فناناً،….
(في طفولتنا الباذخة الطافحة بالشعر وبالشعرية وهي التي ساهمت في تشكيل رؤاي الخاصة، وأسست لعلاقات مترفة مع الأشياء إذ كنت أهيم بتأمل حقول القمح اليانعة الممتدة تجاه الأزرق الأبدي لا بل أكثر.) ص/61/
وتطغى على بيئة الكاتب مفردات البيئة القروية الجميلة الممزوجة بالدفء والحنين، مفردات بسيطة وبلغة شاعرية رهيفة، وكأننا أمام لوحة طبيعية تتداخل فيها الألوان بأبهى صورة وأرق تعبير..
(كنت أصغي مطولاً لسقسقة السواقي وهي تمضي في كرنفالات الفرح تجاه حقول ألبسها العطش أثواب الذبول والكآبة، ياللله ما أجمل َ لغة التراب! كم تطفح بالحنين وبالنقاء وهي تعبّر للماء عن عشقها السرمدي.) ص/61/
وثمّة أسئلة فرضتها الحرب الكونية التي شُنّت على سورية، سورية الوطن والإنسان، يطرحها الكاتب وهو ابن بيئته وعاش حيثياتها وتفاصيلها، عاش مرارتها ونتائجها، الحرب التي طالت البشر والحجر والشجر، وشوهت منظومة القيم والمبادىء والأخلاق والثقافة الجمعية للسوريين..
( كنا نعمل راضين مرضيين، إذ الهدف والغاية من ذلك هو التمسك بسوريتنا واحدة موحدة ، بالرغيف وأبناء الرغيف ونجحنا إلى حد كبير رغم كل ما تعرضنا له على أيدي أعداء الحياة في الخارج والداخل، نجحنا في إثبات أننا أبناء سورية أبناء المطر والقمح والشمس) ص/75/
وحضر الشعر بقوة في مقالات الكاتب، وهو الشاعر وفي رصيده سبع مجموعات شعرية، أولها (تراتيل الماء) عام 1999وآخرها (سيرة الغمام والظّل) عام 2019، ومجموعتين شعريتين للأطفال (أرسم نهراً) و(نهر القرية) عام 2021، وبالتالي من البداهة أن يكون الشعر حاضراً في أكثر من مقالة كما في (الشعر وملكة التخييل، في الشعر العظيم، الشعر انتصار للخير للعدالة للجمال،..)
(الشعر تلك الينابيع التي جمعتنا حولها حفاة، وركضنا على حوافها نشد ُّ السماء إلينا بأناشيد وأهازيج كل الأمهات والجدّات. نرسم ما زنرنا الله به من براءة وعشق على وجه ماء..) ص/115/
(من أسئلة الشعر والحب والحرب… من أسئلة الحياة) للشاعر والأديب عباس حيروقة، جمعت بين المقالة والنص النثري واللوحة الشعرية، هي أسئلة مفعمة بالحب والتأمل والتنوير وصولاً إلى إجابات تحاكي العقل والفكر والمنطق والحياة.
مقالات مقتضبة تطرح رسائل توجيهية ومعنوية جريئة إلى حد الصراخ في وجه القبح والسوء والفساد.
هذا الكتاب يستحق القراءة والتمعن بمفرداته ومواضيعه ورسائله، وأعتقد أن الشاعر حيروقة قد نجح في تحقيق الهدف الذي كتب من أجله كلّ هذا الفيض الغامر بمحبة ودفء وجرأة، وحسناً ما فعل.
* حبيب الإبراهيم