الحلم والأمل والحياة في قصائد عباس حيروقة سنابلُ قمحٍ عند الغروب

إذا كان الشعر محزوناً عند الأنهار وضفافها فإنه كذلك مشحوناً بالحب ,وما بينهما إلا عوالم مشغولة من عمق الطبيعة لتخلق صوراً شعرية معبرة متوجة بحرارة الحب, وعواطف عالية الأحاسيس ولغة رشيقة وشفافة عبر مراسم الحياة الذي نثره من خلال الماء والطيف في حوار قصائده العطشى الذي لا يسد جوفها إلا البوح ,ذلك البوح الذي يحمل قضايا وحس المسؤولية بلغة تفيض تأملاً وحباً وجمالاً يتردد صداها بندى الأمل…
المجموعة الشعرية الخامسة الصادرة عن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق والتي جاءت بعنوان (محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب)تقع في مئة وستين صفحة ,المجموعة مؤلفة من أربع وعشرين قصيدة منها شعر التفعيلة ومنها الخليلية وكذلك قصيدة النثر.
نرى إن الشاعر عباس رسم لنا حقلاً دلالياً في نصوصه الشعرية, تشير هذه المدلولات في مجال الطبيعة حيث كانت المفردات من ظواهر الطبيعة ,ترتبط ألفاظه مثل (البنفسج-القرنفل-الماء-الصخرة-الياسمين) ارتباطاً بمشاعر الشاعر, فالطبيعة إذاً حاضرة في نصه الشعري، يقول في قصيدته (آخره لطين)نذكر بعضاً منها:
من في طفولته
يؤنسن صخرة
أو كان في زهو
يسابق بالهطول الماء
ضميه ليزهر
في أناملك
البنفسج والقرنفل
ياسمين دمشق
..أو ..ما تشتهين.
في قصيدة (محزونة القصبات ضفة نهرنا عند الغروب) نجد بأن الشاعر كان مليئاً بفيض من الحزن والتعب ومن خلال نتاج شعره يبرز انتمائه إلى محيطه الإنساني والفكري والاجتماعي وقضايا وطنه ،حيث نستعرض بعضاً من أبياتها:
أيها القمح المسافر
في أغاني الأمهات
لك البراري..
والزغاريد الحنونة
ما بنا …؟؟؟!!
نستجمع السغب
المطل على
أنامل طفلنا
ونذرُّه بفراتنا
في كرنفال
كي تقوم ضفافنا
عن نهرنا
لنجيء بالتابوت
في طقس
يشابه من تعمد
أو تعبد
في بيوتات
الصليب.
نلاحظ بأن  كلمة (ماء) تكررت في قصائد المجموعة, فالشاعر هنا يحمل قضية هامة ،أجاد بها من خلال ألفاظه (نهر-الفرات-ضفة-بئر-نبع) حيث يقول:
وجهت وجهي
مثلما أيّ
الطيور
إذا تجوع فراخها
يتحاور الله العظيم
بقلبها مع ما
يقيت
هذا الفرات وحالنا
((كالعيس في البيداء
يقتلها الظما…))
هلاّ سقيت…
عبّأت وجهك بالوريد
وركضت في الأمداء
ركض الخائفين
لأغور مثل النبع
مثل السرِّ في
صدر دفين..
آلام الذات الإنسانية التي امتزجت بالطبيعة نراها تتجرع كأس اللوعة والأسى في أغلب قصائده ,وكأنه يريد أن تشاركه همومه وأحزانه وانفعاله ,ففي قصيدة (تبكي الرياح) نرى الأفعال المضارعة غالبة مع غياب الفعل الماضي وكأن الشاعر يريد التطلع بشكل مباشر نحو المستقبل مع نظرة تفاؤلية على أمل الاشراق, يقول فيها:
الدرب يسأل عن خطوي وينفرد
ويسأل الكرم ..هذا البلبل الغرد
ويسأل الليل عن أقداحنا أملاً
أن يوقظ الشمس سكّير ويتّقد
ويسأل الحزن عن قلبي ليؤنسه
فيهتف النبض: من لي غيرك السند
أمضي بقلبي لصوت الناي في جبل
هل تحمل الريح أحزاني و تبتعد
كما نرى بأن لفظة الفعل المضارع (يسأل) تكررت في القصيدة , يحس متلقي شعر عباس حيروقة بوحدة الانسجام بين السياق الشعري والمجال التعبيري من خلال تكرار هذه اللفظة الدالة على الحاضر والمستقبل (الدرب يسأل),(يسأل الليل) ,(يسأل الحزن), وعندما نتحدث عن التكرار لانقصد بذلك الحشو الزائد كما هو معروف الذي يلجأ إليه الشاعر كلما خانته العبارة ,إنما يخضع التكرار لقوانين التوازن والايقاع والتناسب النفسي وجمالية الصورة وعمق الخيال وإيحائية العبارة, فالتكرار هو إلحاح الشاعر على جهة ما في العبارة لغرض ما, وهنا جاء التكرار كدلالة نفسية مما يساعد الشاعر على الابتعاد عن الافصاح المباشر وعن الهموم لبعض الشيء وعن ما تخفيه النفس ليعبر بألفاظه (الليل-الحزن-الدرب-)هم الذين سألوا، ليواسي نفسه بعد أن سأل لفظة الشمس كناية عن الأمل, ولفظة النبض كناية عن الحياة..
وفي قصائد (ومضات) يقدم الشاعر لوحات سريعة وكل واحدة منها تعبرعن إحساسه ومشاعره سواء أكان وطني أم عاطفي أم إنساني ,فتشكل لنا لوحة كبيرة تنطق بألوانها الحارة ومعالمها الواضحة حضور الشاعر وانسجامه مع الصورة الشعرية التي ملأت سطوره حياة وأملاً ودفئاً وعلى هذا الأساس فالشاعر ينادي لوطنه وبأن رغم كل المآسي والأوجاع التي تلحق بالوطن ,فسوف يبقى الوطن الأصل مادام هناك من يرفع علم بلاده وتبقى ابتسامات الأطفال خالدة مستشرقة في وضح النهار يقول في قصيدة (راية):
أيها الوطن الملتحي
بالقنا
هل ترى أنني
كنت في زمن
أرفع العلم المرتمي
فوق كل الجبال
التي عانقت..
قهقهات
الصغار
وطني.. هل ترى أنك
المنحني
مثل
..سهم
النهار
وبعيداً عن الهموم والأحزان نراه يحلق نحو الفضاء ,فضاءات الحب ,ذلك الحب الذي يرى فيه النور, ذلك الحب كل أشكاله وأبعاده يرى منه الأزهار والقصائد ,إنه حب لا ينطفئ ,حب مليء بالحس والتذوق ,فالقصيدة (كوز وشفاه.. وأنين) صور تحمل في طياتها العيش والحياة وكل الحب ,المفردات التي جاءت في القصيدة تصور لنا علاقة الشاعر بالأنثى ومن هذه المفردات(رعشة-النهد-الشفاه-النشوة)
نستقطب من قصيدته أبياتاً حيث يقول:
تلك البيادر مذ كوّرتها بيدي
أنين نشوتها بالقيظ …يرويني
وتسكب الضوء في زهو على شفتي
فيزهر اللوز في كل البساتين
تذور شفاهي كما الفلاح حنطتها
وترشف النهد آلاف الملايين
يساقط الرطب النوريُّ من قمر
فوق الشفاه الغريرات الكوانين
هذا الديوان في كل حالاته عبّر عن رؤية ونظرة الشاعر عباس للحياة ،فكان الحلم وكان الطموح وكان الحب وكانت الانسانية المفعمة بالصدق والعفوية
يشار أن هذا الكتاب هو الخامس للشاعر عباس حيروقة المولود في مصياف-المحروسة- عام 1972 والذي صدر له دوواين شعرية هم:
1- تراتيل الماء , دار بترا دمشق 1999
2- قيامات الفرات, دار بترا بدمشق 2000
3- سغب الضفاف دار المقدسية بحلب 2003
4- ماء وأعشاش ضوء اتحاد الكتاب العرب دمشق 2010

                                                                                          رزان القرواني

المزيد...
آخر الأخبار