تندرج قصيدة (الحواكير العتيقة) والتي قدّمت نفسها عنواناً لمجموعة شعريّة للشاعر المبدع حبيب الإبراهيم، والتي صدرت مؤخراً في دمشق، ضمن ما يُعرف بالشّعر الرّيفي الرومانسي الذي شاع في أرياف أوروبا، فهذا الضرب من الشعر البكر يتغنّى بالطبيعة وآلائها الأخّاذة كما هو الحال لدى الشاعر الإغريقي الكلاسيكي (هسيود) الذي رأى في الطبيعة آيات الجمال من خضرة الأشجار وعبير الأزهار، وغناء الأطيار، والهواء العليل، والماء السلسبيل .
والطبيعة لدى الشاعر البريطاني (وليام وردورث) فاكهة العين وطيورها جوقة موسيقاها العذبة السلسة، وأما الشاعر(صاميول بتلر كولريدج) فقد رأى في الطبيعة البكر معجزات الله عز ّ وجل، وكان ينبذ كلّ من يعبث بنِعم الطبيعة الساحرة .
ينهج الشاعر حبيب الإبراهيم نهج الشعراء الأوروبيين الذين عشقوا الطبيعة الغنّاء ذات المناظر الخلّابة، فيحنّ إلى ذكريات ماضيه التي عاشها ببساطة، يتذكّر بيت طفولته مع أسرته، بيته الذي غفا في أحضان الطبيعة الوارفة الظّلال :
(هُنا بيتنا
العوسج الغافي
والقبّرات ُ حيارى
هنا بوابةُ الحزن
وجه أمّي
ما زلت ُ أذكر
كيف السنونو بنى أعشاشه
وكيف اليمام
استدلّ القباب .)
يبدع الشاعر وهو ابن هذه البيئة، وهذه الطبيعة في رسم لوحة غاية في الجمال والروعة، إذ يصوّر “العوسج الغافي” و”القبّرات حيارى” و”السنونو” و”القباب” و..
هذه هي مكونات الفضاء الذي عاش فيه الشاعر وترعرع، هذا الفضاء الغافي في حضن الطبيعة هو مرتع طفولته وموضع ذكرياته البريئة .
وشاعرنا بار جداً؛ فوجه أمّه يذكّره بشقائها وتعبها والسّهر على راحته وراحة بنيها، فهي مثال التّضحية، وحزنها دلالة على سعيها الدائم نحو تلبية حاجاتهم دون كلل ٍ أو ملل .
وتنساب ذكريات الشاعر على نحو عفوي تلقائي، فيسترسل في الإفصاح عن حنينه إلى طفولته، أو عصره الذهبي، إن جاز لنا التعبير هكذا :
(أجيءُ وحيداً
أوقد عمري شمعة ً
شمعة
أركض ُبين الحواكير العتيقة
ليس َ في حقائبي إلاّ الدّهشة
هي الأماكن سواقي
براري
وأصوات الرّعاة
وجوه الأحبة …)
يشير النظر الفاحص هنا إلى أن الشاعر يعود إلى طفولته حيث كان يسرح ويمرح، والفرح يشعّ من محياه الذي تعلوه البساطة والطّيبة، يتذكر السواقي والبراري، أصوات الرّعاة الذين يمضون جلّ وقتهم في كنف الطبيعة ذات المناظر الأخّاذة .
تسحر أهازيج الرّعاة الشاعر لعفويتها وموسيقاها العذبة السلسة،
وتجدر الإشارة هنا إلى أن أغاني الرّعاة تمحورت حول الطبيعة ومفرداتها التي تشكّل لوحة جمالها وفتنتها
وتنضم تهويدات الأمّهات إلى موسيقا الرّعاة فتشكّل سيمفونية تنضح بالبراءة والروعة والبساطة، وعلى غرار أغاني الرّعاة، تعبّر تهويدات الأمّهات عن حبهم لفلذات أكبادهن وسعيهن إلى جعلهم يخلدون إلى نوم ٍ هادىء ومريح .
تمتاز هذه الأغاني والتهويدات بحب أصحابها للحياة التي اتّسمت ببساطتها وابتعادها عن التّكلف والتّصنع والرياء .
ويمضي الشاعر في سرد ذكرياته الجميلة، فيقوى حنينه المتنامي سريعاً، فيقول بلسانٍ جريح وقلب ٍ ذبيح :
(أيُّ ريح ٍ حملت
بقايا قصائدي
أيُّ جرح ٍ نازف ٍ
يعانقني ويمضي؟!
في عيني ّ
رماد الحيرة
أرتمي كطائر ٍ
يرسم رقصة الحزن الأخيرة)
هنا تكمن الطاقة الكبرى؛ فالذكريات الجميلة لن تعود، وذاك الماضي الجميل لن يعود، وتلك الحواكير العتيقة لن تعود ببهائها ورونقها المعهودين .
ويدرك الشاعر أنّ الحواكير العتيقة تظل تدور في مخيلته فتغدو دوّامة من الذكريات من الماضي غير المُستعاد، من السّراب الجميل :
(كلّ الأماكن تدور… وتدور
في مُخيّلتي
أساطير ..
وجع ٌ يتجدّد
لا هي تأتي
ولا الحِداء ً يبعث ُ صداه؟!)
ويزداد وجع الحنين إلى ماضيه الذهبي، فيدرك عدم جدواها، لأنّ ذاك الماضي قد ولّى، ولن يعود البتّة :
تستلقي بين أصابعي الأمنيات)
لا الليل استراح
ولا النهار طل؟!)
هاهي مواجع الشاعر حبيب الإبراهيم؛ فذكرياته تلوح أمام ناظريه وتستوطن خياله، ولا تبرحه، وتشكّل هذه المواجع دعوة حثيثة إلى التّمسك ببساطة العلاقات الإنسانية وصدقها وطيبتها، وهذه الدّعوة الحميمية ما هي إلّا هروب من ربقة الحياة الحاضرة التي يمزّق أوصالها الزّيف والرّياء، فتعالوا نعِش الحاضر بقيم الماضي العتيق، الماضي الذهبي ببساطته وصدقه .
الشاعر في سطور
حبيب يوسف الإبراهيم
مواليد ١٩٦٣ حماة – مصياف
مدرس متقاعد ، شاعر وكاتب.
إجازة في الآداب، قسم التاريخ ،جامعة دمشق، 1987
دبلوم تأهيل تربوي ، جامعة دمشق 1992
عمل مدرساً في مدارس ريف دمشق وحماة من عام 1992-2023
بدأ النشر في الصحف والمجلات المحلية عام ١٩٨٤
يكتب الشعر والمقالة والخاطرة والدراسة والزاوية الصحفيّة
ينشر نتاجه الأدبي في الصحف والمجلّات والدوريات المحليّة والعربيّة
لديه عدّة مخطوطات شعريّة ونثريّة