بين الشفافية والمحاسبة:  أولى جلسات المحاكمة العلنية للانتهاكات في حلب

 

الفداء – زهراء كمون:  

بدأت يوم أمس الاثنين أولى جلسات المحاكمات العلنية للمتهمين بارتكاب الانتهاكات خلال أحداث الساحل السوري،في لحظة وصفها قانونيون بأنها تشكل منعطفاً حاسماً في تاريخ القضاء السوري، وذلك في القصر العدلي بحلب، برئاسة القاضي جمعة العنزي، رئيس اللجنة الوطنية للتحقيق وتقصِّي الحقائق.

ومع انعقاد الجلسة الثانية صباح اليوم الثلاثاء، بدأت تتبلور ملامح مسار قضائي جديد يتوخّى الشفافية ويطمح -وفق القائمين عليه- إلى ترميم الثقة في المؤسسات العدلية بعد سنوات من الهيمنة الأمنية والإجراءات المغلقة.

جلسات علنية للمرة الأولى منذ أعوام: 

شهدت الجلسات حضور عدد من ذوي الضحايا وممثلين عن وسائل الإعلام في خطوة غير مسبوقة منذ سنوات طويلة في البلاد.

وجرى خلال اليومين الأولين محاكمة سبعة موقوفين في القسم الأول: بتهم شملت إثارة الفتنة الطائفية، السرقة، والاعتداء على قوى الأمن الداخلي والجيش.

أما القسم الثاني: فقد تم  محاكمة سبعة عناصر  متهمين بالقتل والسرقة وانتهاكات جسيمة.

أكد القاضي جمعة العنزي، في تصريح نشره عبر منصة “إكس” أنَّ اللجنة “تدرك ضخامة وتعقيد الملف”، معتبراً أنَّ ما جرى “حدث بالغ الأهمية لذوي الضحايا ولكل مهتم بمسار العدالة والإنصاف”.

وشدَّد العنزي على أن تطبيق نتائج التحقيق على الأرض “يثبت أن سوريا دولة تلتزم بالقانون وتراعي العدالة” وحقوق المتهمين في آن واحد.

هذا الحضور القضائي العلني لم يكن مجرد مشهد رمزي، بل هو – وفق المختصين – تحول في فلسفة الإدارة القضائية للنزاعات، وتحول في الخطاب الرسمي تجاه ما جرى من انتهاكات في مناطق الساحل والسويداء.

ملف واسع وأرقام ثقيلة:

أعلنت اللجنة الوطنية للتحقيق في وقت سابق أنها أحالت 563 متهماً إلى القضاء، بينهم 298 متهماً بارتكاب اعتداءات على المدنيين، و265 متهماً بالاعتداء على عناصر الأمن العام، هذه الإحالات جاءت ضمن التقرير النهائي الذي رفع إلى الرئيس السوري أحمد الشرع في 22 تموز الماضي.

وأوضح المتحدث باسم لجنة أحداث الساحل ياسر الفرحان أن الإحالات إلى المحاكمة بدأت تباعاً، وأن جلسة اليوم شملت توجيه اتهامات أو صدور قرارات من قاضي الإحالة.

وأكد الفرحان أنَّ سرية التحقيقات كانت ضرورية لحماية الأدلة ومنع فرار المطلوبين، وأن القضاء يحدد ما يُعلن وما يُؤجَّل.

اندلعت الأحداث التي شهدها الساحل في 6 آذار 2025 عقب هجمات شنها مسلحون موالون للنظام المخلوع على القوات الأمنية، واستمرت لأيام قبل أن تتمكن الدولة من فرض السيطرة الكاملة.

وقد وثقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان مقتل 1562 شخصاً بين 6 آذار و16 نيسان 2025، إضافة إلى عمليات نهب واعتداءات واسعة على المدنيين وممتلكاتهم.

اعتمدت التحقيقات وفق اللجنة على شهادات ذوي الضحايا، محاضر استجواب، وثائق رقمية، وضبوط معاينة ميدانية في المقابر وأماكن الدفن.

وأسفرت الجهود عن التحقق من هوية 298 شخصاً يُشتبه بتورطهم في الانتهاكات، وتوثيق 1426 ضحيةً بينهم 90 امرأةً.

تظهر هذه الأرقام حجم الملف واتساع نطاق التحقيقات التي أجرتها اللجنة، بالنظر إلى تعدد الوقائع وتنوع الجهات المتورطة، إضافة إلى الكم الكبير من الشهادات والأدلة التي استندت إليها في توصياتها.

تقصِّي الحقائق وبداية مرحلة جديدة:

بعد أحداث الساحل مباشرة، أصدر الرئيس الشرع قراراً بتشكيل لجنة وطنية لتقصي  الحقائق، على أن تقدم تقريرها خلال 30 يوماً قبل أن يمدّد عملها ثلاثة أشهر إضافية.

ونتيجةُ هذه الجهود ظهرت تباعاً في قرارات توقيف وإحالة وتنحية عدد من المتورطين، بعضهم من العاملين في مؤسسات أمنية وعسكرية.

كما عالجت لجنة أخرى في الجنوب برئاسة القاضي حاتم النعسان الانتهاكات التي شهدتها السويداء في تموز 2025.

وأكد النعسان في تصريحات سابقة استقلالية اللجنة عن أي ضغط سياسي، مشيراً إلى تعاون واسع من الوزارات المعنية.

التحقيقات في المنطقتين وضعت الدولة أمام مرحلة جديدة من المكاشفة مع الرأي العام، بعد سنوات كانت فيها مثل هذه الملفات مُغيبة ومحاطة بالسرية.

البعد القانوني والسياسي: ماذا تعني هذه المحاكمات؟

يرى باحثون قانونيون أن انعقاد الجلسات العلنية ليس مجرد إجراء بروتوكولي، بل خطوة تعكس تحولاً في اتجاهين متوازيين:

على المستوى الداخلي:

تعزيز الثقة بين الدولة والمواطن من خلال إظهار أنَّ القضاء قادر على محاسبة أي جهة أو فرد، مهما كان موقعه.

فبعد سنوات شهدت اتهامات واسعة بتجاوزات من عناصر أمنية أو جماعات محلية مسلحة، تظهر هذه المحاكمات كرسالة واضحة بأن لا حصانة خارج القانون.

– على المستوى الخارجي:

تمنح هذه الخطوة سوريا موقعاً أقرب للمعايير الدولية للمساءلة، خصوصاً في سياق السعي إلى إعادة التموضع السياسي والدبلوماسي وإظهار جدية الدولة في تطبيق الالتزامات الحقوقية.

كما أن علنية الجلسات تسمح بحدوث رقابة اجتماعية وإعلامية على سير الإجراءات، وهو ما يضع السلطة القضائية في مواجهة اختبار مباشر حول مدى استقلالها وقدرتها على تحقيق العدالة في الملفات الحساسة.

بين القضاء والمجتمع: هل تعيد الجلسات بناء الثقة؟

يؤكد الباحث الأكاديمي صدام الحمود أن هذه المحاكمات تمثل “أداة لإعادة صياغة العلاقة بين الدولة والمجتمع”، لأنها تتعامل مع جراح اجتماعية عميقة خلفتها الانتهاكات والفوضى في الساحل والسويداء.

ويرى أن نجاح هذا المسار مرتبط بمدى قدرة القضاء على الكشف الكامل عن المسؤوليات، وضمان محاكمة عادلة للمتهمين، ونشر نتائج التحقيقات بوضوح، وإطلاع الرأي العام على سير الإجراءات دون انتقائية.

ويشير مختصون إلى أن العدالة في مثل هذه الملفات لا تتعلق فقط بالمحاسبة القانونية، بل أيضا بإعادة الاعتبار للضحايا وتهدئة التوترات الاجتماعية، وهو ما يجعل هذه المحاكمات خطوة أولى في طريق أطول نحو المصالحة المجتمعية.

هل نحن أمام تحول دائم؟

مع استمرار الجلسات في القصر العدلي بحلب، تتابع مؤسسات الدولة والرأي العام هذه التطورات باهتمام بالغ، فالمحاكمات العلنية تمثل اختباراً مزدوجاً:

اختباراً لقدرة القضاء على إثبات استقلاليته، واختباراً لمدى استعداد الدولة لتقديم نموذج عدلي أكثر شفافية.

ورغم أن الطريق ما يزال طويلاً ومعقداً، إلا أن هذه الخطوة تضع حجر الأساس لمسار جديد في العدالة السورية، مسار يوازن بين المحاسبة وترميم الثقة، ويفتح الباب أمام قراءة أكثر مسؤولية لماضي الانتهاكات وبناء مستقبل أكثر استقراراً.

 

 

المزيد...
آخر الأخبار