مَا مِنْ مَوْضوعٍ مِنْ المَوْضُوعَاتِ يَسْتَحْوِذُ عَلَى النَّفْسِ البَشَريَّةِ مِثْلَمَا يَسْتَحْوِذُ عَلَيْهَا المَوْتُ بِوَصْفِهِ مَوْضوعَ وُجودٍ يَتَعَلَّقُ بِحَيَاة وَروحٍ ، والرّوح عِلْمٌ غيبي، وَهِيَ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ، وَوَفْقَ هَذَا المَنْظورِ سَنَنْظُرُ إِلَى مَوْضوعِ المَوْتِ فِي شِعْرِ عِصام خَليل لَيْسَ بِوَصْفِهِ حالَةً شِعْريَّةً وَحَسْب، بَلْ بِكَوْنِهِ تَجْرِبَةً حَقيقيَّةً عَاشَ الشّاعِرُ أَبْعادَها، وقاسى مرارتها مرتين بِوَفَاةِ أُسامَة الأَخِ، وَأُسامَة الِابْنِ، وَفِي هَذِهِ المُقارَبَةِ سَأُحَاوِلُ أَنْ أُضِيءَ عَلَى رُؤْيَةِ الشّاعِرِ لِلْمَوْتِ مِنْ خِلالِ شَعْرِهِ اَلَّذِي يَكْشِفُ عَنْ تِلْكَ التَّجْرِبَةِ القاسيَةِ اَلَّتِي تَرَكَتْ أَثَرَها وَتَأْثيرها اَلْواضِحين فِي كُلِّ مَا كَتَبَهُ، وَظَلَّتْ تِلْكَ الْآثَارُ عَصيَّةً عَلَى النِّسْيانِ رَغْمَ مُرورِ الأَيّامِ يَقُولُ :
” كَيْفَ نَنْسَى إِذَنْ ،
أَنَّنَا حِينَ نَهُوَى . . . نمُوتُ !
وَحِينَ نَرَى مَا لَا يَرَى الآخَرُونَ . . .
نَمُوتُ ! “
يَطْرَحُ الشّاعِرُ فَلْسَفَتَهُ تُجاهَ المَوْتِ اَلَّذِي لَا يَعْنِي مُجَرَّدَ الْغِيَابِ وَحالَةَ الفَقْدِ، بَلْ إِنَّهُ يَتَمَثَّلُ فِي حُبِّ الآخَرِ، كَمَا يَتَبَدَّى فِي رُؤْيَتهِ المُخْتَلِفَةِ لِلْأَشْيَاءِ عَنْ الآخَرِ، يتَّخذُ المَوْتُ فِي هَذِهِ النَّظْرَةِ بُعْدًا أَكْثَرَ مِنْ مُجَرَّدِ الإِحالَةِ عَلَى الخَارِجِ، بَلْ إِنَّهُ المَوْتُ اَلَّذِي يُشِيرُ إِلَى الحالَةِ الواعيَةِ لِلْإِنْسَانِ المُفَكِّرِ اَلَّذِي يَتَجاوَزُ مَا يَجِدُهُ فِي الواقِعِ، وَمَا تَفْرِضُهُ رُبَّمَا عَلَيْهُ الحَياةُ، إِذْ يَخْلقُ المَوْتُ رِهاناتِ الذّاتِ مَعَ واقِعِها فِي هَذِهِ الحَياةِ، وَهُوَ مَا عبَّرَ عَنْهُ مِيشِيل مَافِيزُولِي بِقَوْلِهِ :” لَيْسَ المَوْتُ مَا يُمْكِنُنَا تَجاوُزُهُ، وَلَكِنَّهُ مَا يَنْبَغِي التَّوافُقُ مَعَهُ ” .
وَفِي هَذَا المَنْحَى تُصْبِحُ العَلاقَةُ بَيْنَ الإِنْسانِ والْحَياةِ عَمَليَّةً مُسْتَمِرَّةً تَهْدِفُ إِلَى فِعْلِ تَهْيِئَةٍ وَتَحْضِيرٍ لِتَقَبُّلِ الإِنْسانِ فِي مَآلِهِ الأَخيرِ اَلَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ .
وَهَذَا المَآلُ الأَخيرُ فِي المَصيرِ الإِنْسانيِّ اَلَّذِي يُشَكِّلُ هاجِسَ قَلَقٍ وُجودِي يَقْضُ مَضْجَعَ الإِنْسانِ المُتَمَسِّكِ بِالْحَيَاةِ يُحَاوِلُ تَجاوَزَ إِرْهاصاتِ المَوْتِ المُحيطَةِ بِهِ بِكُلِّ شَكْلٍ وَعَلَى اخْتِلافِ الدَّرَجاتِ، مُحَاوِلًا تَجاوَزَ المَوْتِ بِنِسْيانِهِ غَيْرَ أَنَّ هَذَا النِّسْيانَ لَا يَعْنِي الِاسْتِغْراقَ بِجَماليَّةِ الحَياةِ والِاسْتِمْتاعِ بِمَا فِيهَا ، وَهُوَ مَا عَبّرَ عَنْهُ الشّاعِرُ عِصامُ خَليل اَلَّذِي رَأَى تِلْكَ الحَقيقَةَ اَلَّتِي تَعْكِسُ حالَتَهُ :
حِينَ نَنْسَى . . .
نَكَفُّ عَن المَوْتِ !
لَكِنَّنَا لَا نُجيدُ الحَياةَ
إِنَّ مُحاوَلَةَ النِّسْيانِ إِنَّمَا هِيَ راحَةٌ لِلتَّفْكِيرِ مِنْ الحُزْنِ عَلَى مِنْ افْتَقَدْنَاهِمْ غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الرّاحَةَ المُؤَقَّتَةَ لَا تَمْنَحُ الإِنْسانَ القُدْرَةَ عَلَى إِتْقانِ العَيْشِ فِي الحَياةِ، إِنَّهَا المُفارَقَةُ اَلَّتِي يَصْدِمُ الشّاعِرُ بِهَا قارِئهُ اَلَّذِي لَا يُتَوَقَّعُ أَنْ يَأْتيَ الِاسْتِدْراكُ بِخِلَافِ مَا يُظَنُّ، وَهُوَ أَنَّ النِّسْيانَ قَدْ يُحَقِّقُ حالَةً مِنْ التَّعايُشِ الجَماليِّ مَعَ الحَياةِ
يَبْدُو المَوْتُ لَدَى الشّاعِرِ عِصام خَليل طاقَةً تحْصرُ التَّفْكيرَ فِي حَيِّزِها اَلْوُجوديِّ اَلَّذِي لَا تَسْتَطيعُ الفِكاكَ مِنْهُ، إِنَّهُ حَيِّزُ الفِكْرِ اَلَّذِي يَجْعَلُ مِنْ المَوْتِ حالَة اتِّصَال لَا حالَةَ انْفِصالٍ كَمَا هوَ فِي الحَقيقَةِ، وَكَيْفَ لَا يَكونُ ذَلِكَ والشّاعِرُ مَفْجوعٌ بِابْنٍ وَأَخٍ، وَكُلُّ واحِدٍ منهِما يُمَثِّلُ بَعْضًا مِنْ دَمٍ، أَوْ قِطْعَة مِنْ جَسَدٍ.
إنَّ تَذْكّرُ المَوْتَى لَيْسَ مُجَرَّدَ عَمَليَّةِ اسْتِعادَةِ طُيُوفٍ، وَتَذَكَّر حَالَاتٍ وَمَواقِفَ، بَلْ إِنَّهُ فعلُ تَحْريرِهِمْ مِنْ دائِرَةِ الْمَاضِي، وَإِعادَةِ التَّفاعُلِ مَعَهُمْ فِي لَحْظَةِ الزَّمَنِ الحاضِرِ .
إِنَّ الذِّكْرَياتِ لَيْسَتْ الصّوَرَ اَلَّتِي تسْتَعَادُ عَلَى شَريطِ الذّاكِرَةِ، إِذْ كُلُّ البَاقِينَ عَلَى قَيْدِ الحَياةِ هُمْ حُرّاسٌ لِلذَّاكِرَةِ، هُمْ يُؤَرِّشِفُونَ وَيُخَزَّنونَ ذِكْرَى عَنْ مَوْتاهم، هُمْ إِذَنْ فِي حالَةِ صِراعٍ دائِمٍ ضِدَّ النِّسْيانِ، و بِهَذَا المَعْنَى يُصْبِحُ النِّسْيانُ وَجْهًا مِنْ وُجوهِ المَوْتِ؛ فَمَن هُمْ الأَمْواتُ فِي حَقيقَةِ الأَمْرِ ؟ إِنَّ الشّاعِرَ الحَيَّ فِي حَقيقَةِ الأَمْرِ هوَ
اَلَّذِي يُعَانِي مَرارَةَ المَشْهَدِ لَدَى مُعايَنَةِ القَبْرِ، وَهُنَا تَتَجَلَّى مُعاناةُ الشّاعِرِ اَلَّتِي تَتَشَظَّى مَأْساةً مُسْتَمِرَّةً كُلَّمَا زَارَ القَبْر اَلَّذِي يُمَثِّلُ نُقْطَةَ الِارْتِكاسِ اَلنَّفْسيِّ، وَذُرْوَةَ الصِّراعِ اَلَّذِي يَكْشِفُ عَنْ هوَّةٍ فاصِلَةٍ بَيْنَ عالَمِ الشّاعِرِ اَلَّذِي يَعْنِي الحَياةَ، وَعالِمَ الفَقيدِ اَلَّذِي يُؤَكِّدُ حَقيقَتَهُ وُجود القَبْرِ، وَمَا يَعْنِيه هَذَا المَوْقِفُ مِنْ اِسْتِحالَةِ اللِّقاءِ بَيْنَ عالَمِ المَوْتِ وَعالِمِ الحَياةِ مِنْ جِهَةٍ ، وَيُفِيدُ بِعُزْلَةِ الشّاعِرِ عَنْ فَقَيدِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى كما في قَصيدتِهِ الموسومةِ بـ : ( مَوْعِد ) يقولُ فيها :
بَيْنَ مَوْتي وَمَوْتِكَ ، مَوْتٌ طَويلٌ !
يُعَذِّبُني _ كُلَّمَا زُرْتَ قَبْركَ _
إِنِّي أَعودُ
وَأَنَّكَ تَبْقَى ،
فَنَحْنُ وَحيدان
فِي مَوْعِدٍ مُسْتَحيل !
وَهَذَا التَّأَزُّمُ عَلَى صَعيدِ المَشْهَدِ الواقِعيِّ المُتَجَلِّيِّ بِحَقيقَةِ قَبْرٍ، وَوَحْدَةِ الشّاعِرِ اَلَّذِي يَرْجِعُ مِنْ زيارَةِ القَبْرِ مُنْكَسِرًا مُنْفَرِدًا يَجِدُ نَفْسَهُ يُؤَكِّدُ حَقيقَةَ مَا يَعْتَمِلُ فِي داخِلِهِ مِنْ صِراعٍ، وَمَا يَعْتَمِلُ فِي نَفْسِهِ مِنْ هَواجِسَ :
أَشْهَدُ :
كُنْتُ أَخَافُ مِن المَوْتِ ،
لِأَنَّنِي صِرْتُ أَخْشَى الحَياةَ !
مَوْلايَ :
أَبْدَلَنِي الدَّهْرُ
مُوتَا . . بِمَوْتٍ ،
وَتَعَلَّمُ _ لَا شكَّ _ كَمْ يُوجَعُ الحَقْلَ
مَوْتُ النبات !
مَوْلايَ :
أَشْهَدُ أَنِّي تَعِبْت ،
وَمَازَالَ فِي أَوَّلِ المَوْتِ . . .
مَوْتي !
وَأَمَامَ قوَّةِ المَوْتِ وَجَبَروتِ سُلْطَتِهِ لَا يَجِدُ الشّاعِرُ سِوَى مُناجاةِ اللَّهِ يُعْلِنُ ضَعْفَهُ الإِنْسانيَّ، وَعَجْزَهُ البَشَريّ أَمَامَ المَوْتِ وَسَطْوَةِ قانونِهِ اَلَّذِي لَا حيلَةَ يَجِدُها تِجاهَهُ سِوَى إِعْلانِ الِانْكِسارِ والتَّعَبِ، وَهُوَ مَا جَاءَ مُعَبِّرًا عَنْهُ بِدَلَالَةِ المُفْرَداتِ الموحيَةِ اَلَّتِي تَعْكِسُ مَا لَدَى الشّاعِرِ مِنْ أَحاسيسَ، وَمَا لَدَيْه مِنْ مَشاعِرَ : ( أَخَافُ ، تَعِبْتُ ، انْكَسَرْتُ ، المَوْتُ )
وَعَلَى الرَّغْمِ مِنْ حَقيقَةِ الضَّعْفِ الإِنْسانيِّ تُجاهَ المَوْتِ، غَيْرَ أَنَّ النَّفْسَ البَشَريَّةَ تَظَلُّ مُتَعَلِّقَةً بِوهْمِ البَقاءِ، إِنَّهُ الإِحْساسُ اَلْوُجوديُّ اَلَّذِي يُرِيدُ لِلْأَحْبَةِ أَلّا يُغَادِرُونَا؛ لِأَنَّنَا نَرْفُضُ التَّسْليمَ بِحَقيقَةِ فِعْلِ مُغَادَرَتِهِمْ، وَنُحاوِلُ أَنْ نَسْتَبْقِيهِمَ فِي الوِجْدانِ، إِنَّهُ تَعَلّق الأَنَا بِأَجْزائِها، وارْتِباطِ الكُلِّ بِبَعْضٍ مِنْهُ، وَهُوَ مَا يُعمِّقُ لَدَى الشّاعِرِ الإِحْساس بِصُعوبَةِ الِانْفِصالِ :
المَوْتُ لِمَوْتِكَ . . . ..
وَمَا أَجْهَل قَلْبِي حِينَ يَموتُ ،
وَأوجِع أَسْئِلَتِي ، . . . .وَضْنَاي !
يَا أَحْلَكَ لَيْل سَال عَلَيَّ ،
وغلغل فِي ،
وَغَمسَ بِالْمَوْتِ الأَقْلامِ
إِنَّ الْآبَاءَ هُم الأَيْتامُ
إِنَّ الْآبَاءَ هُم الأَيْتامُ
إِنَّهَا حَقيقَةُ المُعاناةِ اَلَّتِي يَشْعُرُ بِهَا الوالِدُ المَفْجوعُ تُجاهَ ابْنِهِ أُسامَةَ اَلَّذِي وَإِنْ كَانَ قَدْ غَيَّبَهُ المَوْتُ إِلَّا أَنَّ رَغْبَةَ الشّاعِرِ لَا تَعْتَرِفُ بِذَلِكَ الحَدَثِ، إِذْ نَجِدُ الشّاعِرَ يُقاوِمُ فِعْلَ المَوْتِ بِالْكَلِمَةِ أَوَّلًا : ( المَوْتُ لِمَوْتِكَ ) وَهِيَ دَعْوَةٌ عَلَى مَوْتِ المَوْتِ اَلَّذِي أَفْقَدَ الشّاعِر وَلَدَهُ ، وَفِي مُسْتَوَى ثَانٍ يُصْبِحُ المَوْتُ سَبَبًا لِجَفافِ القَلَمِ اَلَّذِي لَا يُجِيدُ التَّعْبيرَ عَنْ عُمْقِ الأَلَمِ ، وَعظمِ المَأْساةِ، وَفِي المُسْتَوَى اَلثّالِثِ يُبْدي الشّاعِرُ الحَقيقَةَ اَلَّتِي يَرَاهَا فِي نَفْسِهِ، وَيَجِدُها مُتَمَثِّلَةً فِي حَقيقَةِ الفَقْدِ عَبْرَ مَسارِ تَارِيخٍ، وَمَساقِ حَوادِثَ ماضيَةٍ تُفِيدُ بِأَنَّ مَوْتَ الأَبْناءِ، إِنَّمَا هوَ فِي مُضْمَرَاتِهِ النَّفْسيَّةِ، وَآثارهُ البَعَديَّةِ يَعْنِي مَوْتَ الْآبَاءِ، وَهُوَ مَا جَعَلَ الشّاعِرَ يُكَرِّرُ العِبارَةَ اَلَّتِي جَاءَتْ بِأُسْلوبِ الخَبَرِ الطَّلَبيِّ فِي إِشارَةٍ إِلَى تَأْكيدِ المَقولَةِ، وَإِثْباتِها حَقيقَةً قارَّةً يَسْعَى إِلَى جَعْلِها حِكْمَةً خالدة .
فَاَلْحنَيْنُ كَمَا الأَمَلُ، وَالمَاضِي كَمَا المسْتَقْبَلُ . كِلَاهما يثْقِلَانِ كاهِلَ الإِنْسانِ وَيَمْنَعانِه مِنْ سَعادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمَاضِيَ زَالَ، والْمُسْتَقْبَلُ لَمْ يَحِنْ :
” لَوْ قُللْتَ لِي ،
مِنْ أَوَّلِ الكَلِماتِ ،
إِنَّكَ لَنْ تُرَافِقنِي إِلَى لَحْنَي البَعيدِ ،
لِما شَدوْتُ .
وَلَكنْتُ أَضْمَرْتُ المَرَايَا ،
خَلْف مَا فِي القَلْبِ مِنْ غَبَشٍ عَتيقٍ
لَا يُطالِعُهُ الصَّباحُ ،
فَمَا بَدَوْتُ “
هَذَا اَلْإيمانُ بِحَتْمِيَّةِ المَوْتِ، يَرْمِي بِثِقَلِهِ عَلَى شِعْرِ عِصامِ خَليل، تُرافِقُهُ الرَّهْبَةُ والْخَوْفُ، فَقَدْ ظَلَّ هاجِسُ المَوْتِ حَاضِرًا بِقوَّةٍ فِي نُصوصِهِ الشِّعْريَّةِ؛ إِذْ يَقُولُ :
ونَعْجُزُ _ حِينَ نَمُوت _ عَن المَوْتِ !
كَيْفَ نَنْسَى إِذَنْ ،
والْمَسافَةُ بَيْنَ القَصيدَةِ والْقَلْبِ ،
أَقْرَبُ مِنْ لَسْعَةِ المَوْتِ ،
أَبْعَدُ مِنْ جَمْرَةٍ
فِي رَمادٍ عَجوزٍ
وَأوجِعَ مِنْ شَهْقَةِ الضَّوْءِ
فِي صَدْرِ فَجْرٍ ؟
وَلِهَذَا فَالْخَوْفُ مِنْ المَوْتِ لَهُ مَشْروعيَّتُهُ :
مَوْلايَ أَشْهَدُ :
أَنِّي أَخَافُ مِنْ المَوْتِ
أَنِّي أَخَافُ مِنْ المَوْتِ
إِنَّهُ الخَوْفُ مِنْ تَأْكيدِ فِكْرَةِ اَلذَّهابِ مِنْ دُونِ عَوْدَةٍ، إِنَّهَا مُحاوَلَةُ اسْتِحْضارِ المَوْتِ فِي قَلْبِ الحَياةِ، مَوْتَ الْمَاضِي، وَلَحَظاتِ الحَنينِ . . .
أَمرُّ مِن المَوْتِ مَوْتي عَلَيْكَ ،
وَمَوْتِي فِيكَ ،
وَمَوْتِي الطَّويل ، وَقَدْ عِشْت بَعْدَكَ !
وَهَذَا العَيْشُ إِنَّمَا هوَ البَقاءُ عَلَى قَيْدِ الحَياةِ بِحُكْمِ الواقِعِ الجَسَديِّ، لَا الحالَة النَّفْسيَّة اَلَّتِي يَعِيشُهَا الشّاعِرُ، بينما في الحقيقة إنَّما هُوَ مُجَرَّدُ هَيْكَلٍ مِنْ جَسَدٍ لَا يَشْعُرُ بِمُتْعَةِ الحَياةِ، وَلَا فَرْحَة الْعِيدِ فِيهَا :
أَنَا لَيْسَ لِي عِيدٌ
كَبَاقِي اَلْمَيِّتينَ !
لِي جُثَّةٌ تَمْشِي عَلَى وَعْدِ الضَّريحِ
وَلَمْ تَصِلْ !
وَعَلَى هَذَا يَجْمَعُ الشّاعِرُ المَوْقِفَ مِنْ اَلْحَياةِ والْمَوْتِ عَلَى مُسْتَوَى فِكْريٍّ واحِدٍ، بِروحٍ مَليئَةٍ بِالشَّكِّ وَالرِّيبَةِ، حَيْثُ يُعَدُّ المَوْتُ مَصْدَرَ أَسى وَحُزْنٍ، والْحَياةُ مَسيرَةٌ يَوْميَّةٌ إِلَى ذَلِكَ المَصيرِ الحَتْميِّ لِلْفَرْدِ يقول :
مهما تلوْتُ
صارتْ لُحُوني
قبلَ أنْ تجدَ الطَّريقَ إلى فمي
بكْماءَ في وَضَحِ الغناءِ
فكيفَ أُنشدُ ما تيّسَّرَ منكَ فيكَ
وانتَ ــ في الحالينِ ــ مَوْتُ !؟َ
إِنَّهَا النِّهَايَةُ اَلَّتِي يعْرفُ الشّاعِر أَنَّهَا المَآلُ والْخاتِمَةُ، وَهُنَا يَتَجَلَّى السُّؤالُ اَلَّذِي لَا يَنْتَظِرُ الجَوابَ ، وَقَدْ جَاءَ سُؤال مَعْرِفَةٍ، لَا سُؤالَ اسْتِفْهامٍ؛ لِيَكْشِفَ عَنْ حَقيقَةِ الوُجودِ، وَأَزَليَّة الصِّراعِ اَلَّتِي يَظَلُّ الإِنْسانُ عَالِقًا فِي مَتَاهَاتِ أَسْئِلَتِها المُتَجاذِبَةِ عَبْرَ ثُنائيَّة : المَوْتِ والْحَياةِ .
د. وليد العرفي