وسادة غفران . .

 
طبع الفجر قبلته الأولى على الكون . و لاح أمل خفي متسرب من اشراقة الشمس . 
ـ جلست قرب نافذة غرفتها المطلة على صحن الدار ، و أفكارها مبعثرة كسحب رمادية في السماء اللانهاية لقد فقدت القدرة على تمييز الأيام الصافية و الأيام العكرة .
ـ قالت : إني أرى لكل شيء اغتراباً وزيفاً في كل من عرفته .. يبدو أن القلق بدأ قتاله في ذاكرتي . 
نظرت للمرآة .. اليوم عمري ( خمس و أربعون عاماً ) بدأت خصلات بيضاء تتسلل لشعري و تجاعيد أراها تمشي دون استئذان على وجهي . 
ـ بكت بمرارة صباها الذي ذوى كغصن أخضر مر عليه عشرون ثلج و عشرون صيف . 
أمسكت قلماً وورق حاولت أن ترسمه تذكرت تفاصيل وجهه .. نظرت إليه بإمعان أعادت بذاكرتها أيام تتالت فيها الحلو و فيها الأقل حلاوة ، و قد مر فيها أيضاً أيام كالعلقم كل يوم له طعمه الخاص و له ظروف ، و طبيعته و أحداثه .. و نتائجه و ذكرياته .. رددت بينها و بين نفسها : 
ـ إن لحظات السعادة التي مرت بها كانت قليلة .. قليلة .. من أنت يا أنت .. !!. 
ماذا أسميك ، كل الأسماء بمعانيها بعيدة عنك كل البعد إنها لا تليق بك ابداً . 
ـ منذ زمن .. وقبل أن أعرفك كنت طفلة صغيرة بالمدرسة ألهو مع رفيقاتي أركض في الحديقة القريبة من منزلنا ، أشتري قطع الحلوى أبحث عن بقعة خضراء تحت الشمس ، أجلس عليها و أكتب وظائفي قبل أن أعود إلى البيت . كبرت و طالت ضفائري .. أحببتني و تزوجتني و أنا في الثامنة عشر من عمري . 
عندما رأيتك و لأول مرة رسمتك مخيلتي الفارس الشهم الذي سوف يأخذني على حصانه الأبيض و بثوبي الأبيض إلى مكان بعيد حيث قصرك المسحور .. في مكان لا يعرفنا فيه أحد . 
ـ دخلت بيتك و أنا أحلامي و آمالي تحققت ضممتني لصدرك ، و قلت لي .. هذا بيتك حبيبتي . 
مرت سنوات على زواجي منك عشت معك بسعادة لا توصف ، و ثمار زواجنا ثلاثة أولاد كبرت .  و بدأت تنشر عطائها على المجتمع . لكنك ابتعدت عنا !! .. لماذا .. أخطات بحقنا جميعاً ؟؟ .. كنت تشرب الخمر بين الحين و الأخر و هذا لم أعرفه عنك ، و أخطأت اكثر عندما كنت مخموراً و قتلت رجل . الآن انت في السجن انا أزورك دون علم الأولاد .. سألوا عنك الأولاد كثيراً لم أقل لهم حقيقة بعدك . 
ـ قلت لهم أنك مسافر للعمل خارج البلاد و أنت ترسل مصروفنا إضافة لعملي .
كبر الأولاد مع الزمن و سألوني عنك مراراً قلت لهم لقد انقطعت اخبارك . عنا و لم أعرف لك عنوان . 
ـ التفتت ورائها .. و أمامها دارت الدنيا بها قالت : 
ـ مزدحمة هذه الغرفة بصخب الأسئلة و صدى الإجابات و أنا أشعر أني مزدحمة بأشياء أخرى و أسئلة أخرى ليس لها إجابة . 
ذات صباح مشرق استيقظت و أمور كثيرة عشعشت في رأسها المتعب .. رن هاتفها ( الجوال ) إنه هو ..منذ زمن بعيد لم يتحدث إليها ! . ارتجفت يداها . تسمرت مكانها .. صاحت في أعماقها .. ماذا حدث ؟ إنها رسالة منه !! .. هل من جديد ؟! ..  إني أخشى عليه إنه والد أولادي .. و عزيز علي ! .. قرأت الرسالة : 
( حبيبتي وزوجتي / سها / أني بحاجة إليك بتلك اللحظة بالذات بحاجة لدفء منزلي و أن تضمني لصدرك ليتني أراكي !! . ) . 
تلك الكلمات القليلة أيقظتها من ثبات عميق و أزاحت عن وجهها الجميل رماد الزمن الذي عاشته و قاست مرارته لوحدها . 
تساءلت بينها و بين نفسها : 
ـ هل سيعود ..؟ و يتم الإفراج عنه قريباً ؟ 
ردت عليه : كلماتك التي كتبتها لي فتحت أمامي نافذة ضوء انتظره .. أنا أشعر أني وحيدة في هذا الكون و بين معابر الحياة الوعرة .
لكن عندما تأت تثمل الروح بالحب ، و نعبر معاً ممرات الفرح و السلام .. نحن ننتظرك . 
شهور قليلة أنهى زوجها / عمر / حكمه .. خرج من السجن .. دخل الحارة التي فارقها ردحاً من الزمن .. تنسم هواء الحرية .. تطلع للسماء .. للحارة .. للبيوت التي تغيرت أبوابها و سكانها . 
توقف عند منزله . 
ـ هذا هو بيتي كما تركته .. لم يتغير سوف أطرق الباب بهدوء .. 
ـ نقر الباب بيد مرتجفة .. و كانت مفاجأة غير متوقعة .. فتح الباب ابنه / وسيم / و قد أصبح شاباً في الجامعة نظر إليه .. تذكر ملامح والده كما في الصورة التي يراها دائماً معلقة على الجدار . 
ـ من ..!؟ .. أنت والدي ؟ .. ! . 
ـ أنا والدك ، و أنت إبني الأكبر / وسيم / .
ـ نعم أنا هو .. 
عانقه والده و احتضنه لصدره ، تنهد قائلاً : 
ـ آه كم اشتقت لكم جميعاً .. دخل منزله .. استقبلته زوجته و الأولاد بترحاب بعد غياب أعوام و تعالت أصواتهم أبي كم نحن بشوق لك .
الحمد لله على السلامة . 
نظرت زوجته إليه نظرة عتابٍ و قالت له : 
ـ قد يكون العتاب كلمة لاذعة و مؤلمة ، ترى هل أنتظر منك كلمة اعتذار . 
حسناً .. قلها لي بكل لغات العالم .. ألف كلمة و كلمة .. فقلبي وسادة غفران دائم تنام عليها كلمات الحب و العتب . 
أمسك يدها و قبلها .. أجابته : 
( دع    الزمن يرمم الشرخ الذي صنعته أنت !!. ) 
رامية الملوحي
المزيد...
آخر الأخبار