سناء محيدلي زهرة بل وردة ولدت و ترعرعت في الجنوب اللبناني، ضاقت ذرعاً بالاحتلال الصهيوني لجنوبها، و ما تلاه من فظائع و أهوال يندى لها جبين البشرية برمتها، فعزمت على القيام بعمل استشهادي بطولي، أسفر عن مصرع عدد من جنود الصهاينة اللئام، و بذا سطرت سناء ملحمة خالدة في الفداء من أجل ثرى بلادها الطيب، و غدت أيقونة للإباء العربي الذي لا يستهين للذل و الهوان، و انضمت إلى قافلة الشهداء الذين ضحوا بأرواحهم في سبيل أبناء وطنهم. كانت هذه توطئة موجزة لبطلة هذه القصيدة الاحتفائية التكريمية.
اتكأ شاعرنا أد خضر عكاري على أوعية الاعلام المرئية و المقروءة، فراح يتغنى ببسالتها و تحديها للمستعمر الغاشم، و يتجلى اتكاؤه هذا على وسائط الإعلام في ظلال لجوئه إلى عبارة (قالوا لنا) التي تتصدر أجزاء هذه الأغنية النضالية الاحتفالية، فعبارة (قالوا لنا) تشير إلى عملية التدوين و التوثيق اللذين من شأنهما تخليد رموز البطولة في بطون أسفار التاريخ التي تتحدى الفناء و النسيان.
قالوا لنا:
صبية غزالة
كانت.. ((سناء))!
تحب.. أرضها
و تعشق الفداء
يستهل شاعرنا بتصوير فتاة قصيدته بصفتها وردة فاتنة في ريعان شبابها. و يدل النظر الفاحص إلى أن مبدع هذه الزفرة الشعرية يوظف أسلوب التقديم، فنرى مفردتي (“صبية” و “غزالة” تسبقان فعلهما (كانت)، و ما هذا التقديم إلا فعل لغوي سيميائي الوظيفة، لأن شاعرنا منهمك برسم أيقونة شعرية لها. و بمضي شاعرنا قدماً فيؤكد حبها لأرضها التي تفديها بروحها:
تحب أرضها،
و تعشق الفداء!
إذن، ثأرها هذا ما هو إلا رد فعل دفاعي يهدف إلى الذود عن أهلها، و تلقين الغاصبين درساً عله يكف عن جرائمه المروعة. بيد أن دم الشهامة و عنفوانها يجيشان في عروقها، فتبرز نبراساً يضيء دياجير الظلام الذي خيم على جنوبها المستضعف:
قالوا لنا:
و فجأة.. توهجت
كالنجم في السماء!
و تفجر الحقد الدفين و الحداء!
و وقتها..
تزنر.. الليل الطويل
بالضياء؟!
ههنا تكمن براعة شاعرنا في رسم صورة انقشاع (الليل الطويل)، لأن الثائرة محيدلي تبرز نجمة تنير ظلمة ليل دامس يكتظ بالمساء
و لا غرابة في القول أن فعل (تفجّر) له طاقاته الإيحائية، فهو ينطوي على عمليتها الفدائية حين فجرت نفسها، و نار المتفجرات نار حقيقية لأنها أضاءت ليل جنوبها المحتل، و هي نار مجازية لأنها تمثل روح الأنفة التي تأبى الركون أو الركوع للباغي.
يستثمر شاعرنا عكاري آلية التقديم ليكشف الدوافع التي أضرمت روح سناء النضالية، و بهذا تظهر هذه الفدائية فتاة تنطلق من احساسها بالظلم الذي حاق ببني بلادها، و شعورها بضرورة تطهير ثرى وطنها الذي يدنسه البغاة:
قالوا لنا:
ترابها.. يدوسه الطغاة..
و شعبها.. يناله البغاة!
فهي مناضلة تشعر بحق بلدها و أبناءه عليها. و لا ريب في أنها أحست بما يعتمل في أفئدتهم المعذبة، و بأنهم يتوقون لرفع نير الاحتلال عن رقابهم.
يا ويلنا
خلاصنا من أين و النجاة؟!
أجل لقد أدركت آلام الجنوبيين التي تعالت صرخات مدوية في أرواحهم المعذبة، فهبت لنجدتهم و نصرتهم لأنها
تحب أرضها،
و تعشق الفداء!
يرسم شاعرنا عكاري رحلتها إلى التاريخ المجيد، أو سجل الخلود، حيث تطل علينا صور مشرقة لمن جادوا بأرواحهم في سبيل نصرة شعوبهم.
قالوا لنا:
تفجرت بنفسها،
و زلزلت أرض الجنوب..
و سطرت من دمها،
سفر.. العطاء!
لقد استحال دمها الطاهر إلى مداد خط مناقبها الكفاحية، فغدت (سفر العطاء) المروءة. و يتابع شاعرنا توظيف مفردات الكتابة و التأريخ فتغدو أمثولة في حب الوطن و أهليه:
قالوا لنا:
أسطورة، حكاية صارت (سناء)
من جرحها.. اصطخب الولاء
و بفضل إقدامها صارت ملحمة في الشعر المقاوم:
عروسة الجنوب..
قصيدة.. مكتوبة
بالدم.. و الحنان.
يدل التوظيف المتعمد لمفردات الكتابة و أدواتها على أن شاعرنا أزمع على رسم أيقونتها في ملاحم الشعر الوطني الخالد.
يؤكد شاعرنا مرامي هذه القصيدة التأريخية الهادفة، فيذكي في نفوس متلقيها الرغبة في النظر إلى الوطن و بنيه بوصفهم قيمة سامية جليلة:
من منكم
أدى.. الولاء؟!
من منكم
لبى النداء؟!
يا أمتي حان الفداء
عروسة
كانت (سناء) ؟!
و تتعاظم شاعرية خضر عكاري، فيبدو شاعراً ملتزماً بقضايا أمتنا العربية، فيطلق صرخة مدوية، من شأنها أن تجعل الآخرين يعون أننا نأبى الخضوع:
فليسمع الزمان
أننا من أمة،
لا تقبل.. الهوان؟!
هذه هي أيقونة سناء محيدلي الشعرية، حيت تتحقق نبوءتها التي خطتها قبيل عملها الفدائي، فغدت عروس الجنوب، و من هنا نلحظ أن استشهادها ما هو إلا عرس يتغنى به كل من يحب وطنه و شعبه. و تحية لشاعرنا الذي برع حين رسم هذا العرس البطولي، و ضمها إلى الفراشات الملونة التي أعطت اسمها عنواناً لمجموعته هذه، التي صدرت عن دار الذاكرة في حمص، عام ١٩٩٤. و بعد، خرجت سناء محيدلي من رحم الجنوب،وضحّت بروحها من أجل وطنها الأم، و بهذا جسدت صورة الوطن بوصفه أمّاً نذود عنها لنصون منعته و سيادته
د. الياس خلف