الرقة .. كانت بناسها الطيبين … وبيوتها الطينية وحاراتها الضيقة.. وعوالمها المسحورة كل هذا نبتة في النسيج الأدبي الذي حاكه د. عبد السلام العجيلي على مدار عقود في عالمه الأدبي..
فظهرت روايات العجيلي وقصصه وانتشرت في أرجاء الوطن العربي وهنا أقف برهة في واحة العجيلي الأدبية لأنتقي من واحته مجموعة في قصتين وكانت آخر مطبوعاته في عام /2003/..
القصة الأولى… بعنوان حب أول وحب أخير وتتألف من (71) صفحة والقصة الثانية سعاد وسعيد وتتألف من (100) صفحة.
قصة حب أول وحب أخير..
قرأت القصة .. وأعدت قراءتها مرات.. وجلت في تلافيف أحداثها.. لقد برع الأديب عبد السلام العجيلي في حبك القصة فجاءت بأسلوب بسيط تسلسلت أحداثها دون تكلف أو تعقيد…
هي مذكرات أديب وشاعرة.. وعلاقة حب غير عادية نسجت خيوطها المصادفة التي جمعتهما في أمسية أدبية..
بطلا القصة اثنان شاعرة شابة في قمة شبابها وأنوثتها … وسيدة مجتمع وأم وزوجة لرجل أعمال تقيم في الساحل.
والأديب متوسط في العمر له مركز اجتماعي معروف يقيم في دمشق تعرفت به في إحدى أمسياته الأدبية بدمشق ثم دعاها لمنزله حيث تعرفت بزوجته وابنتيه….
وتوثقت العلاقة بينهما، وأكدت عليه زوجة الأديب فكلما زارت دمشق تنزل ضيفة في بيتها….
صديقها الأديب انشد إليها وأحبها لكنه لم يظهر لها ذلك الفارق العمري الأديب العجيلي استرسل في سرد أحداث قصته الشيقة، فجعل من بطلة القصة عاشقة غاصت في بحر عميق لا مدى له…
لقد أحبته وكانت تهيم به، وتشده إليها بحديثها ..وكانت تقرأ له على الهاتف كل ما تكتب فيدعوها لزيارته.. حتى نسي صديقها أنه مريض وأنه بعمر لا يمكنه من الغزل والعشق…
قال لها في إحدى جلساته معها:
لا تقولي إنك آتية من بلدك البعيد كي تقرأي علي أشعارك !إذا كان ذلك فأنا أرحب بسماعها.. قلت لك: إني أفضل أن أسمع قصائدك منك شخصياً قبل قراءتها في الدوريات هل تذكرين ذلك.
قالت له:
وكيف أنسى ذلك وعلاقتنا منذ ثلاث سنوات.. أنا أذكرك وأشكرك.. ولا أنسى أنك أعدت لي ثقتي بنفسي وقدمتني إلى المنابر لأعتليها…
كتبت هي تقول :
أحببته أقولها ببساطة وصراحة بعد مرحلة إعجاب بأعماله الأدبية التي بدأت بقراءتها منذ استطعت تفهم أسلوبه الواضح وترسخ إعجابي به أكثر حين قبل قراري بزيارته إياه في مدينته، وفي منزله وبحضور زوجته وإحدى ابنتيه.
وأخذني هذا الإعجاب يوماً بعد يوم لحب جنوني.. وكثرت لقاءاتي معه وصارحته بشعوري نحوه فضحك وقال:
أنت شاعرة تحولين دائماً كل عاطفة جميلة إلى حب.. الحب شيء آخر.. الحب غير هذا الذي تتكلمين عنه. ( اسألي المجرب!)
لكني ظللت على قناعتي وظل هو في تشككه .. وكان يصف ما يعجبه من شكلي وتقاطيع تكويني بأسلوب جميل لا أعرف إن كان جداً أومزاحاً.. لكنه يتغزل بمفاتني بأسلوب أبوي.
أسلوب والد فخور بجمال ابنته ويشير إلى الشيب والصلع الذي يزحف من مقدمة رأسه إلى قمته … ويذكرني دائماً إنه في سن أبي…
الشاعرة .. احتجت بينها وبين نفسها وامتعضت فقالت له:
أنت شاب في عيني، لماذا تصر على قولك إنك شيخ عجوز..؟
وعاد يحدثها بلهجة مرحة ، فرد عليها:
عندي لك سؤال… هل تستطيعين القدوم إلى دمشق منتصف الشهر القادم.
ماذا يجري هنا في منتصف الشهر القادم؟
قال :
سألقي محاضرة عن دراسة لكتاب (مجهول) إلى أحد الأصدقاء الأوربيين ما رأيك أن تشاركيني بقراءة بعض قصائدك في الأمسية..
كدت أطير فرحاً.. احتضنته بلا شعور وطبعت قبلتين على وجنتيه..
لكنه سألني وهو لا يدري أن أسفاري إلى دمشق تاركة ورائي ولديّ الصغيرين وزوجي كانت أكثرها في هذه السنوات الثلاث…
كتب هو في أوراقه:
ضعفت كثيراً.. لا شك أني ضعفت أمامها، أقولها بصراحة هذه المرأة ( جنية) استطاعت بعفويتها، وبفتنتها أن تدخل الوهن إلى قرارات أخذتها لنفسي والتزمت بها لسنين عديدة..
هذا المساء.. تهدج صوتي وأنا أقرأ لها تلك الأبيات التي كتبتها بخطي وأرسلتها إليها، كان أول لقاء لنا.. وكنا لوحدنا… ليس صوتي وحده تهدج.. فقد تسارع قلبي وراح يطرق أضلاعي بشدة هربت من التهدج والوجيب إلى غرفة النوم مدعياً أني سمعت تململ ( فايز ) حفيدي في فراشه .. وبينما أنا أتململ عاودتني النخزة في جانب صدري… تذكرت ما قاله لي وكرره عليّ الدكتور بديع:
إياك والانفعال… أنت في صحة جيدة، احذر الانفعال العاطفي، العاطفة تقود إلى الجنس… وقررت أن أبتعد عن كل الانفعالات كما أوصاني الطبيب.
تحرك الأديب عبد السلام العجيلي مع أبطال قصته بهدوء ودون تعقيد وجعل لغة التحاور بينهما كتابة حتى جاءت بشكل مذكرات …
كتبت هي:
أردت أن أعيد رجلي الذي أحبه إلى الحب.. وأعدته إليه أقسم على أنه يحبني لم أكن في حاجة إلى أن ينطق بالقسم لأتأكد من ذلك، نطقت بحبي نظراته وضمات ذراعيه وهمسات شفتيه وهي تقول:
حبيبتي … حبيبتي .. إني ألف أحبك.. أنت الحب الأول… والحب الأخير.. هاتفني ذات مرة من مدينتي قبل الغروب، إنه سيزورني ، كدت أطير فرحاً استقبلته أنا في منزلي وكان زوجي مسافراً والأولاد في زيارة لبيت جدهم..
اجتمعنا أنا وهو في ليلة ربيعية في دار ٍ خالية.. وفي غرفة مظلمة ٍ نافذتها تطل على حديقة صغيرة، ويتسرب إليها من زجاج النافذة أضواء ما بعد الغروب الشاحبة فلا تمحو من عتمتها إلا القليل….
مشى معي كطفل صغير إلى الغرفة.. تحدى معي المرض.. ووصايا الدكتور بديع.. والموت.. قال لي:
أنا لا أخاف الموت أنا أحبك..
تعال كفاك تعذيباً لنفسك ! وحدك الأناني.. لا تبتعد أنا لا أحتمل بعدك عني سأكون هذه الليلة أنا الأنانية بل شيطانة في أنانيتي..
أنتِ يا بدعة الحسن بين ذراعي… على طريقتي أحبك، ألف أحبك هات أسمعيني قصيدتك الأخيرة التي نظمتها بي وأعدك أني سأرسل لك مقدمة ديوانك التي كتبتها لك…
كتبت هي بعد ثلاثة أشهر.. أو تزيد:
يستغربون تفضيلي السواد.. ولماذا صارت أثوابي سوداء.. حتى زوجي وأولادي… لقد قررت لبسه عاماً كاملاً، لقد انتهى صديقي مات فجأة كما توقع له الأطباء : وقبل أن يتاح لي السفر لرؤيته وقبل أن يكون لي لقاء أودعه فيه الوداع الأخير…
بتلك الكلمات المفعمة بالشجن والأسى.. أغلقت الشاعرة قلمها ولم تعد أعصابها تقوى على الإمساك به.. أو الكتابة.. كان ملهماً لها وكان صديقها وحبيبها..
بهذه النهاية الحزينة المؤلمة أنهى الأديب د. عبد السلام العجيلي قصته الرائعة (لكي تكون نهراً عليك أن تجاور نهراً ).. هكذا ولد عبد السلام العجيلي .. وهكذا عاش وهكذا مات…
عبد السلام العجيلي في سطور…
ولد عبد السلام العجيلي عام ( 1918) في مدينة الرقة في شمال سورية.
تلقى تعليمه الابتدائي في الرقة، وانتقل إلى حلب فأتم تعليمه الثانوي وانتسب إلى الجامعة السورية في دمشق، درس الطب ونال شهادة دكتور عام (1945) إلى جانب الطب عمل في السياسة وشغل مناصب كثيرة في الدولة، وبعدها تفرغ لهوايته في الأدب والقراءة… صدر له قبل هذا الكتاب اثنان وأربعون كتاباً باللغة العربية منها سبع روايات .
وثلاث عشرة مجموعة قصصية، وديوان شعر واحد وخمس مجموعات من المقالات وعدد من المؤلفات الأخرى..
من رواياته : باسمة بين الدموع- قلوب على الأسلاك- ألوان الحب الثلاثة-
أزاهير تشرين المدماة.
له أعمال قصصية كثيرة أختار منها:
بنت الساحرة- ساعة الملازم- قناديل تشرين- الحب والنفس- الخيل والنساء – الخائن فصول أبي البهاء- موت الحبيبة- مجهولة على الطريق….
رحل عبد السلام العجيلي عن عالمنا في ( 7/4/2006) تاركاً كنزاً ثقافياً أثرى به رفوف مكتبتنا العربية.
بقلم راميا الملوحي