كتبت القاصة المبدعة لما عبدالله كربجها مجموعة قصصية جديدة للأطفال بعنوان (عطر الولد الشاطر )، ونشرتها دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع في مطلع العام الجاري(١).
ويشير النظر الفاحص إلى أن القاصة قد تخيّرت علامات سيميائية ووظّفتها في عملها الأدبي هذا لكي تشير إلى اهتمامات الأطفال الصغار، التي تتجلى في مهارتي القراءة والتلوين. فالقراءة هي نطق كلمات تستهوي الأطفال وتداعب خيالاتهم المجبولة على البراءة والرغبة في اكتشاف العالم من حولهم، والرسومات المرافقة لقصصها والتي ضمتها دفتا هذا الكتاب تشجعهم على القيام بتلوينها فتتطور ذائقتهم الفنية البكر.
وأود التأكيد أن كلمة (الشاطر) تبرز بوصفها شارة سيميائية تسعى إلى مخاطبة الأطفال في سني طفولتهم المبكرة، ذلك لأن الأطفال يحبون صفة الشاطر التي تنطوي على الذكاء وسرعة البديهة وحسن التصرف.
ونجد لزاماً علينا الإشارة إلى أن عنوانات هذه القصص القصيرة مستمدة بعناية فائقة من دنيا الأطفال: الطبيعة السمحة وآلائها الطيبة: الأشجار والثمار والورود والطيور، وهذا دليل واضح على أن اختيارها لهذه العنوانات السيميائية كان متقناً ببراعة الأديبة الأريبة، ذلك لأنه يناسب عالم الطفولة الظامئ للتعلم والاطلاع على العالم الخارجي من حولهم.
في عجالتنا هذه سأسلط الأضواء على قصة (الشجرة المثمرة) التي تشكل فاتحة لهذه القصص الإرشادية التوجيهية.
استهلت الأديبة قصتها هذه بتصوير وقع مؤثر في نفوس القراء فتقول:
بدأت الشجرة المثمرة بالبكاء ألماً وهي تتحسس جروحها، فأثارت اهتمام البستاني حين مر من أمامها حاملاً فأسه، وسألها عن سبب بكائها ونحيبها…(ص٧)
تتنامى درامية هذا المشهد الديناميكي بفضل تقنية التشخيص التي تجعل من الشجرة بطلة تبكي دموعاً تترجم ألمها الذي يتجسد في ظلال الجروح الموجعة. وغني عن الذكر هنا إلى أن بكاءها لم يذهب سدى، فقد وجد صداه في نفس البستاني الذي سرعان ما أظهر شفقته ولبس عباءة المعلم الذي يواسيها، كما سنرى لاحقاً.
ومعلوم أن القاصة تدرك اهتمام الأطفال بالتفاصيل التي ترسم معاناة هذه الشجرة الباكية، فيفيض خيالها بذكر جملة الأسباب التي كدّرتها وسببت الآلام لها، تقول الأديبة:
البارحة حاوطتني مجموعة من الدبابير وبدأت تلسعني، وتنهش ثماري، واليوم بدأ أطفال الجيران يرشقوني بالحجارة ويهزون جذعي بشدة حتى تخلخلت جذوري، والعصافير أيضاً نقرت ثماري وبنت أعشاشها على ذراعيّ المتعبتين مع أنني لم أفعل شيئاً لأي منهم! (٧)
والجدير بالذكر هنا أن القاصة توظف مفردات بعينها بغية إظهار آلام الشجرة المثمرة التي استحال الفرح بثمارها إلى حزنٍ مضنٍ. فالألفاظ منتقاة بعناية بالغة:(تلسعني، تنهشني، يرشقوني بالحجارة، يهزون جذعي بشدة، تخلخلت جذوري، نقرت ثماري، ذراعيّ المتعبتين). إنها تعمل على توضيح خيبة الشجرة المثمرة: ففرحها بثمارها الناضجة صار وبالاً عليها لأنها تعرضت إلى التنكيل بها، إذ لا حول ولا قوة لها، وسلاحها الوحيد يتمثل في تحسّرها وبكائها.
بيد أن القاصة تنتقل من الأجواء المأساوية التي رسمتها في ظلال ماتعرضت إليه الشجرة المثمرة المحزونة، فتسعى إلى إضفاء بشائر الفرح التي تتبدى على شفاه البستاني الذي ابتسم وراح يشرح لها فوائد عطاءاتها الثرة، يقول البستاني للشجرة المتألمة بلسان الموجه الذي ينكب على غرس الموعظة التعليمية في ظلال تقنية المقارنة الفنية، إذ يقارنها بشجرة عديمة الثمر والجدوى:
هل ترين تلك الشجرة القابعة بالقرب منك، إنها شجرة يابسة لا تحمل ثمراً ولا تأوي العصافير ولا تطعم الأطفال ولا تحمي أحداً بظلها من الشمس، فهي عارية خاوية من كل شيء، لا يلتفت إليها أحد من المارة، بل يكاد ينساها الجميع عدا عن شكلها البائس والمنفر الذي يدعو للشفقة والازدراء(ص٨)
تنبع القيمة الفنية لهذه المقارنة من تعزيز الأثر التوجيهي لهذه القصة، فالشجرة الحية مكون من مكونات الطبيعة التي أنعم الله علينا بها، فثمارها شهية وظلالها وارفة.
وتتجسد يبوسة هذه الشجرة عديمة النفع حين يعلن البستاني أنه سيقطعها بفأسه، فهي لم تعد صالحة لتقديم الثمر الطازج أو الظل الظليل.
يزداد الدرس التعليمي وضوحاً ومتانة حين ترسم القاصة انشراح الشجرة المثمرة التي أنسنتها منذ البداية حين صورتها باكية تتحسس آلامها الجسدية والنفسية:
تنفست الشجرة المثمرة الصعداء وحمدت الله على لسعات الدبابير وحجارة الأطفال بعد أن أيقنت أن أهميتها لا تكون إلا بمقدار ماتقدمه للناس من تضحيات وفوائد رغم كل ما تعانيه من آلام(ص٨)
ههنا تكمن أهمية هذه القصة: العطاء والتفاني فيه دون مقابل، ففرحة العطاء والتضحية لا يضاهيها شيء، هكذا تصوغ أديبتنا البارعة قصتها هذه، لتسكبها في ظلال سيميائية، الشجرة الخضراء المحملة بالثمار الساحرة، والشجرة اليابسة التي لا تطعم أحداً ولا تظله.
هذه عجالة، فالغوص في ثنايا قصص هذه المجموعة يحتاج صفحات كثيرة من الدرس النقدي والتذوق الفني، وسيكون هذا في قادم الأيام. وهنا لابد لي من الإشارة – بموضوعية – إلى قيمتها الفنية التي تجعلها تتبوأ مناهجنا الدرسية في تعليم النشئ في مدارسنا، ففيها الكثير الكثير من الصنعة الجمالية، والمزيد المزيد من العظة الأخلاقية التي تهدف مناهجنا إلى غرسها وترسيخها لتغدو الأجيال القادمة صالحة لبناء مجتمع مسلح بقيم العطاء دون انتظار مقابل، والشجرة المثمرة خير قدوة لأطفالنا، عدتنا في المستقبل.
الحواشي:
………..
لما عبدالله كربجها، عطر الولد الشاطر، دار بعل للطباعة والنشر والتوزيع بدمشق، ٢٠٢٢.
بقلم: أ.د.الياس خلف، جامعة البعث