كتب المهندس مرهف ارحيم :
وجيه البارودي إذا كان “المتنبي” مالئ الدنيا وشاغل الناس فإن الدكتور “وجيه البارودي مالئ “حماة” وشاغلها. فله امتداد في ذاكرة المجتمع والبلد امتداداً قلّ نظيره، فحنت الدنيا عليه تبادله الحب بالحب والوفاء بالوفاء مرددة في كل حين أشعاره على شجن النواعير. إن عالم الطبيب المرحوم “وجيه البارودي” عالم رحب وواسع وشامل وهو الحكيم الإنسان، والشاعر الفنان .
«ولد “البارودي” في “حماة” أوائل آذار عام 1906، وأمضى دراسته الأولى في الكتاتيب ومدرسة “ترقّي الوطن ثم كانت الحرب العالمية الأولى التي أوقفت كل شيء، ومع نهايتها تمّ إرساله إلى “لبنان” ليتابع دراسته في بيروت في الجامعة الأميركية عام 1918. وأمضى الطالب “وجيه” هناك أربعة عشر عاماً وتخرّج طبيباً عام 1932»
عاد مباشرة إلى “حماة” وفتح عيادته الطبيّة في نفس العام وبقي يعمل ليلاً نهاراً. في البداية اقتنى درّاجة عاديّة وتعاقد مع بعض الأسر في “حماة” لمعالجتهم دون في النظر إلى عدد أفرادها لقاء أجر سنوي يتقاضاه في آخر العام، أراد أن يجرب حظه في السياسة بناءً على اعتماده أن شعب “حماة” الذي مدّ له يد المساعدة طبيّاً وأدبياً ومعنوياً ومادياً سيقف معه في ترشيحه للمجلس النيابي عام 1949 فلم ينجح، فقال:
«يعزُّ عليّ هجوك يا حماة/ ولكن الصفات هي الصفات ، سلي ينبئك هذا الليل عني/ وساعات النهار المحرقات وأطفال بعثت بها حياة/ سيلحقها الجميل الأمهات
لكنه في الوقت ذاته لم يبخل في مديحها، فقال في ذلك:
وفي حماة مقيم لا أغادرها/ شاطئ البحر عندي ضفة النهر , فيها النواعير والعاصي و/ شاعرها ثلاثة ميّزتنا حكمة القدر ،من طرائفه التي تأخذ طابع الحكمة الطبية قوله (من يأكل تازا ما بيتأذا). (نظّم الواصل، وفرّغ الحواصل، تبرى المفاصل). وطرفة أخرى تدلل على مدى استخدامه للعلاج النفسي في مداواة مرضاه (حيث طُلب إلى منزل امرأة على وشك الولادة ولكنها متعثرة، شاهدها الدكتور “وجيه” فطلب مباشرة من الأهل طبلة (دربكة) وبدأ بالنقر عليها والرقص مع الصبايا مما أدى إلى غرق المرأة الولادة بالضحك وأنجبت مولودها دون أن تشعر بذلك، ولدى سؤال الدكتور “وجيه” عن سبب فعلته هذه أجاب: إن المرأة خائفة ومتشنجة وهذه الحالة لا يفكها إلا الضحك أو الفزع، لم أستطع على الثانية فقمت بالأولى). كانت طرائفه كثيرة ككثرة الناس التي عالجها وتعامل معها».
وعن شعر الغزل :«يتميز شعر “وجيه” أغلبه بالغزل، فقد كان شاعراً هاوٍ لا محترف، لديه أربعة دواوين تحتوي الكثير من قصائد الغزل وله قصيدة مشهورة “الصب الزائر” يقول فيها:
أرى قدميّ نحوك تحملاني/ بروحي لا بعقلي تمشيان , ولو أني ملكت زمام نفسي/ أهبت فلم أبرح مكاني
وكان معجباً أيضاً بغزل الشاعر “نزار قباني” ولكن كان له مأخذ عليه بأنه شاعر الحب فقط، أما الدكتور “وجيه” فهو شاعر العشق وفي ذلك كتب يقول:
ونزار يهوى لا حدود لحبه/ ملك له كل الملاح جواري , لا يعرف العشق الذي أنا غارق/ في بحره فنجا من الأخطارِ
العشق غير الحب موهبة لها/ رهبانها والحب للأغرارِ
«في مراحله الأخيرة حيث اقترب من التسعين فترهّل الجسد وأزفت النهاية، وبعد أن تهتكت شبكية عينيه وازداد ضعف سمعه وأضحى عزمه ضعيفاً أنشد يقول:
أمشي إلى غايتي في منتهى التعب/ كأن ساقيّ قضباناً من الحطب وقد فارق الشاعر ” البارودي” الحياة في الساعة الثانية من صباح الأحد 11-2-1996 و يردد:
أصلي لا أمل وفي صلاتي/ دعاءٌ يمحق الذنب الرديّا , ولا موت أخاف لأن ربي/ سيلقاني بجنّته حفيّا
سيبقى صوته الرنان يدوي في كل مكان وزمان معلناً خلوده الأبدي السرمدي من خلال منجزات نضاله الاجتماعي وشعره العذب الندي الذي ما ذكرت هو نقطة من بحره، إضافة إلى طبّه المتفوق السامي وخبرته العميقة الطويلة وحبه العجيب النادر مرددين في نهاية المطاف ما قاله في هذين البيتين:
أنا حيٌّ بمنجزات نضالي/ وبشعري الذي يظل طريّا , وبطبي وخبرتي وحبي/ سوف أبقى مخلّداً أبديّا