نشرت الهيئة العامة السورية للكتاب المنبثقة من وزارة الثقافة كتاباً بعنوان:
(الموشح على كافية ابن الحاجب لأبي بكر الخبيصي (ت 731 هـ)، قام أ. د. عصام الكوسى بدراسته وتحقيقه. و لكن قبل النظر في هذا المنجز الأكاديمي الرائع، لا بد من الإشارة إلى أن أ.د. عصام الكوسى حبر ذو شأن كبير، وبحاثة جعل العلم دأبه، فاجتهد فيه وتعرف حقائقه.
يستهل أ. د. عصام الكوسى سفره الأكاديمي هذا بمقدمة تفصيلية بالغة الأهمية، ذلك لأنها تبرز بوصفها عتبة نصية تعين المتلقي على الولوج إلى ما احتواه هذا الكتاب بين دفتيه. وما من ريب في أن هذه المقدمة المطولة دلالة جلية على مواكبة أ.د. الكوسى لمعطيات النقد الحداثوي الغربي، واطلاعه على النصوص الموازية التي أكد الناقد الفرنسي الكبير جيرار جينيت أهميتها بوصفها أدواتٍ تسهم في مساعدة القراء على فهم الأثر الأدبي وتذوقه شكلاً ومضموناً على النحو المتوخى.
تتصدر هذه المقدمة آية من الذكر الحكيم، يحمد فيها أ.د. الكوسى الله عز وجل على نعمة طلب العلم والجود به التي أغدقها عليه، ثم يحث المتلقي على طلب العلم والتبحر في علوم لغتنا العربية، لغة القرآن الكريم التي تجمعنا من الخليج إلى المحيط:
أما بعد:
فإن العلم أبهى مطلب وأرقى مأرب وأحسن غنيمة وأرفع قيمة، يتنافس فيه الراغبون، ويتباهى به المحصّلون. والعلوم إن كثرت أنواعها وتباينت أوضاعها، فأجلّها قدراً وأرفعها ذكراً، وأفضلها احتذاءً وأغزرها ارتواءً علوم العربية، لغة القرآن الكريم، نزل به الروح الأمين هدىً ورحمة للعالمين (ص5). يشير النظر الفاحص هنا إلى أن عبارة «أما بعد»، التي يوظفها للفت انتباه المتلقين (أو القراء هنا)، تؤكد أن أ. د. عصام الكوسى يبرز معلماً يحاضر بما يجود به حبه الغامر للغتنا العربية بوصفها أم العلوم قاطبة. ويدل التعمق هنا على أن أ. د. الكوسى يقفّي كلماته تقفية بارعة، فتنساب على نحو تلقائي عفوي يشير إلى نفسه الشاعري:
أبهى مطلب، أرقى مأرب..، غنيمة، قيمة، الراغبون، المحصلون…. أنواعها، أوضاعها… قدراً، ذكراً… وأفضلها احتذاء وأغزرها ارتواءً (ص5)
جاء هذا المنجز العلمي ضمن سلسلة إحياء التراث العربي ونشره التي تعنى بها الهيئة العامة السورية للكتاب التي نعتز بنتاجاتها الفذّة التي تشكل جهود أعلام اللغة والأدب في بلادنا الحبيبة. وأستاذنا الكوسى غيور على تراثنا العربي والنحوي، فهو يعظّم ما خلّفه أجدادنا الذين خدموا لغتنا العربية.
…. انبرى أجدادنا تأليفاً، وجهدوا تصنيفاً خدمة لها وحفظاً، بعد أن ملأ البقاع أريجها والأصقاع، وخلّفوا وراءهم بحراً زاخراًعانقت أمواجه حدود الدنيا وكنوزاً ثمينة وقلائد ذهبية طوقت عنق الزمان … (ص5)
ههنا تشيع الصنعة البيانية، فتراثنا العريق يضارع الأزاهير، إذ فاح عبيره في أصقاع المعمورة، وتراثنا هنا مدعاة للفخر والإكبار، لأنه بمنزلة القلادة الذهبية النفيسة التي تزين «عنق الزمان»، وهذا إشارة واضحة إلى خلوده خلود الحياة ذاتها.
وتضطرم لظى النخوة العربية في نفس أستاذنا الكوسى، فيحضنا على بذل قصارى جهودنا على خدمة تراثنا الأصيل بوصفها واجباً قومياً:
لا شك في أننا أصحاب تراث عظيم؛ وإغفاله والانقطاع عنه يعني قطع الجذور التي نسّقت بالخضرة والنماء الحضارة العربية .. (ص5)
إذاً، فالتنقيب عن الآثار التراثية المنسية ودراسة مكنوناتها هما السبيل الوحيدة لإحياء هذا الإرث الثمين ونشره:
من هنا أصبح همّ العلماء الغيارى على هذا التراث والعاشقين للأصالة الإبقاء على تلك الجذور حية نضرة، فسعوا إلى خزائن التراث ينقبون فيها ليزيحوا الغبار الذي خلف ثمرات عقول الجذور، ليسقوها ماء الحياة والخلود بعد ذلك الحبس الطويل في تلك الخزائن والمكتبات (ص 5)
و أ. د. عصام الكوسى واحد من ثلة التراثيين المتحمسين لكشف كنه تلك الكنوز النفيسة، ولا عجب فهو من أبرز المشتغلين في تمكين اللغة العربية في أيامنا هذه، والنحو العربي شغله الشاغل:
ولما قدّر الله أن أكون من خدمة هذا التراث، شرعت أنقّب عن كتاب أحققه، وقد لفت نظري كتاب له ما يزيد عن خمسين نسخةً توزّعتها مكتبات العالم، ولكنه مازال قابعاً في ردهات الظلمة والنسيان، إنه كتاب «الموشح» للعلامة محمد بن أبي بكر الخبيصي … (ص 5-6)
أجل، لقد أطلت في الإمعان في مقدمة الكتاب هذا، لأنها تزخر بأهدافه ومحتوياته، وسأدع الكتاب يحدّث بلباب مؤلفه ومحققه.
أ.د. إلياس خلف