في جلسة ضمت مجموعة من المثقفين قال أحدهم : إن قراءة كتب التراث العربي أمر لا يجدي شيئاً ، بل هو ضياع للوقت ، لأن زمن هذا التراث غير زماننا ، فعلينا أن نقرأ الحديث والمعاصر فقط .
قلت : من البداهة أن قراءة التراث بكل ما فيه ، ومن خلال نظرة سكونية، أمر لا يجوز البتة أن يستمر عليه أولئك الذين يتعبدون في محراب الماضي ، لأن هذا الموقف لا يناسب واقعنا الذي هو أحوج ما يكون إلى الإفادة من الآداب ، والعلوم ، والفنون العالمية الحديثة لتخطِّي هذا الواقع وتجاوزه ، وإلاّ نكون كمن يعالج مرضه بالتمائم ، ويعرض عن أحدث ما وصل إليه الطب .
كما أن رفض التراث برمّته أمر مرفوض هو الآخر ، لأنه موقف متطرف يقع في الجانب المقابل للموقف الأول ، ومثلما أن اللباس الأنيق ، والعمارات الحديثة ، وقيادة السيارات الفخمة ، لا يعني الحضارة بالضرورة ، فإن الرفض القاطع لكل بارقة جميلة من ماضينا وتراثنا ، قد لايدل على شيء من الحداثة ، ولذا فإنني أزعم أن الموقفين وجهان لعملة واحدة ، لأن أقصى اليسار ليس أفضل من أقصى اليمين في أية حال.
قال آخر: إنني أود أن أسأل الواقف من تراثنا العربي موقف المتطرف الرافض لكل شيء فيه : ماذا قرأ من التراث ؟ هل قرأ المتنبي كاملاً ؟وهل دقّق النظر في مؤلفات المعري ؟ وهل تأمّل ما قاله الشعراء العذريون أو الصوفيون مثلاً ؟
إن شاعراً عظيماً يتبنى قضية إنسانية كبرى لا يمكن أن يكون إلا عظيماً ، ذاك هو المتنبي الذي رفض الانصياع للآخر ، ونادى بالأنَفَة ، وخلّف حِكماً إنسانية راقية ، وباقية ما بقي الدهر. وأبو العلاء المعري الذي تَجَذَّر في شعره قلق الوجود ، والعذريون الذين جعلوا ديدنهم من حبهم العطاء والتضحية والإخلاص ، وكسر طوق الأنانية ، وقهر الرغبات ..
والصوفيون الذين أنكروا ذواتهم ليحترقوا في سبيل الهدف الأسمى في الكون ، وقد أدركوا أن الحياة ارتقاء مستمر ، وثورة دائمة تسعى لإخراجنا من الجمود والسكون … وغيرهم وغيرهم …
قلت : إن التطرف في كل شيء عواقبه وخيمة ، ونتائجه غير محمودة … والاعتدال هو المطلوب ، فنأخذ من تراثنا المفيد والمشرق ، ولا يمكن لنا التنكر له ، فقطع الصلة به يعني القضاء على حاضرنا ومستقبلنا، وما أجمل قول الشاعر العالمي الكبير ( رسول حمزاتوف ) : إذا سلّطنا نيران مسدسنا على الماضي ، فلا بُدَّ أن يسلّط المستقبل نيران مدافعه علينا .
وما أجمل قول المفكر الفرنسي ( جان جوريس) : إن الأمانة تقتضي من الأسلاف الاحتفاظ بشعلة الأجداد لابرمادهم ، والنهر يبقى وفياً لمنبعه وهو يصبّ في البحر.
د . موفق السراج