أدب الرسائل : بين محمود درويش وسميح القاسم وأشجان كثيرة

لقد أرخ الشاعران الكبيران محمود درويش وسميح القاسم بالرسائل المتبادلة بينهما فناً أدبياً تفتقر له المكتبة العربية ,هي رسائل تمزج العام بالخاص بطريقة ساحرة ,يتراشقان ورود الحب للناس وفلسطين , وربما أهم الرسائل المنتشرة لدى الوسط الثقافي العربي عموماً هي الرسائل الرائعة لمي زيادة وجبران خليل جبران ,وسمعت ولم أقرأ في كتاب ,إذ قرأت بعضاً منها، وهي رسائل الروائية غادة السمان والروائي الشهيد غسان كنفاني ,وأتمنى أن تخرج للنور بكتاب يليق بهما .
تقديم …وكأنه جزء من …
الآن ,وقد هطلت الحجارة على هذه الأرض ,فاستصلحتها فأثمرت تيناً وزيتوناً ,أرى هذه الرسائل أنها لم تكن مجرد قطرات دمع بخيلة بالدمع ,بل مشي حجلان كبيرة تسير وراءها أفراخها قاطعة , بأمان ,عرض شارع معبد بالزفت والقطران,أراها ضجة العصافير ,شعراً ,في سيمفونية فجائية تبشر بمقدم الربيع في بلادنا ,هذا ما دونه الروائي الكبير إميل حبيبي في تقديمه لهذا الكتاب الرائع في رسائله ,المتفرد ببوحه الوجداني والإنساني ,والساحر في صياغته الشاعرية ,ويعود إميل حبيبي ليقول :لا ألوم إلا نفسي على أنني لم انتبه إلى روعة هذه الرسائل ,المتبادلة بين شطري (شٌقي) البرتقالة الفلسطينية _محمود درويش وسميح القاسم _إلا بعد أن تكاملت بشراً سوياً ,الأعمار بيد الله ,أمامهما ,مديدة ,أما قصدي فهو الانتفاضة التي أحسا بمقدمها إحساس الطير بالعاصفة قبل هبوبها .
لقد حاول كل من الشاعر الكبير محمود درويش والشاعر الرائع سميح القاسم أن يرسما قوس قزح للأجيال القادمة في عتمة الليل حالك الظلمة , لتتزين السماء بألوان تخطف أبصار جيل يقهر الخوف والذل والانكسار الذي سكن هذه الأمة فيكتب سميح القاسم رسالته :فرج ما هناك ,فرج ما …لن نفقد الأمل ولو من أجل الأجيال القادمة ,وحسبنا ,يا صديقي العزيز ,أننا نرسم بحبر الروح وبدم القصيدة سهماً واضحاً (أرجو أن يكون واضحاً) يؤشر إلى الاتجاه السليم نحو خروبتنا وزيتونتنا وزهرة برقوقنا اللاذعة ……
..الرامة 29/6/1986
فيرد عليه محمود درويش برسالة جوابية :أما لآخر هذا الليل من آخر…؟هل استطاع الجنين المتكون في رحم المريض ,أن ينجو من المرض …؟لا اقترح جواباً بل أطل على صحراء …ما اسم الجزيرة إذا جف البحر …؟لا أقترح جواباً بل أطل على صحراء .
باريس 22/7/1986
هكذا هما يتناقشان بصوت مرتفع ,بوجع وهاجس مؤلم يؤرقهما ,من شعب أجبر على البعثرة في شتات الأرض ,لقد ضاقت بهم الأرض بما رحبت ,ولكن الحلم بالعودة إلى برتقال يافا ,وزيتون فلسطين وقبة المسجد الأقصى هو الهاجس الذي يسكن القلب والعقل والروح .وفي بداية العام الجديد يرسل الشاعر سميح القاسم رسالته :عام جديد آخر …أهو ,حقاً كذلك ..؟وكيف نحصي , نحن ,أعوامنا ..؟ إذن ,لنبدأ تقويمنا بعام الفيل وليكن هذا عام المخيم ,أما العام القادم فسنجد له اسماً آخر جميلاً ورشيقاً بقدر يتناسب عكسياً مع ما نحن فيه أمة وشعباً ,أرضاً وسماء ,بشراً وشعراء . الرامة 21/1/1987 فيرسل رسالته الجوابية وإن تأخرت قليلاً : إن ذلك البقاء الأول هو الذي حمى الوطن من التلاشي ,وان الداخل هو القوة المادية للهوية الوطنية الثقافية ,وان للداخل اسماً يفوق السحر ,لأن الداخل هو الذي وفر للظاهرة الفلسطينية قوة المعجزة .
باريس 5/10/ 1987
ويأتي الإعصار ليزلزل الكيان الصهيوني ,الانتفاضة الفلسطينية العظيمة في 9/12/1987لتؤكد صدق الرؤيا التي يتمتع بهما الشاعران الكبيران , هي ليست صدفة , ولا نبوءة عرافة , هو حس مرهف واستشراق للمستقبل .
ها هو سميح القاسم يكتب رسالته: كم أنا سعيد وممتلىء غبطة وتفاؤلاً بوردتنا الطالعة من حجر ,وفي الوقت نفسه فإنني خائف على هذه الوردة …أما من حجارة في الوطن العربي ………؟؟؟
القدس 8/2/1988
فيجيبه محمود درويش برسالة جوابية :ليت الحاكم العربي يترك الداخل وشأنه ,ليته لا يشارك الإسرائيلي الخوف من استقلال الفلسطيني العربي ..لا تستهجن أبداً أن يرفعوا شعار الهروب إلى الأمام ,كأن يطالبوا الانتفاضة وحدها بمهمة تحرير كامل التراب الفلسطيني من النهر إلى البحر …سيتآمرون نعم سيتآمرون فهل لهم من مهنة أخرى! .
29/2/ 1988
يعود إميل حبيبي ليختم ما سمي (تقديم ) لقد شقي هذان الشقيان ,بشن هذه الحرب ,في بلادنا وفي مجتمعنا وفي حركتنا ,منذ أن شبا على الطوق وشقا علينا ,نحن أيضاً ,عصا الطاعة .
لقد استبسلا في الدفاع عن القضية الفلسطينية وثورتها فكرياً وجدانياًوشعراً وبهاءً , والرسائل تنفرد برفع قضية الزيتون والأقصى والبرتقال لمرتبة القداسة ,وهي تستحق كل هذا ,لأنها قضية العرب والمسلمين .

المزيد...
آخر الأخبار