ساعة حمـــاة والساعاتية أيام زمان

كم كان فرح الحمويين عظيما حين عادت الحياة إلى ساعتهم التي يعتبرونها من الرموز الجميلة لمدينتهم الساحرة شأنها في ذلك شأن النواعير، وجل الفضل يعود لجهود صحيفة الفداء الغراء ولفت النظر لإصلاحها وبإلحاح , وكم كان الحمويون يطربون لدقاتها حين تتمازج مع عنين النواعير في سواكن أواخر الليل , وتراها في وقفتها وانتصابها شامخة في وسط المدينة بساحة العاصي بالقرب من مبنى المحافظة وهي تطل على أربع جهات من شوارع رئيسية بالمدينة تحيط بها لتمكّن العابرين من معرفة التوقيت . وساعة حماة تلفت النظر لأنها تعتبر كأحد أبرز المعالم المعمارية والحضارية بشكلها الجذاب الذي ينسجم مع بناء دار الحكومة المقابل ومع الطابع المعماري للمدينة القائم على الحجر الحموي الملون والأقواس والمقرصنات وهذا ما يعطي للمكان هيبة وجمالا. والساعة يصل ارتفاعها تقريباَ الى 16 متراً وقد تم بناء برج الساعة عام 1950 م بمبادرة من المحافظة والبلدية .
وساعة حماة في وقفتها من الساحة الرئيسية بالمدينة تماثل وقفة أختها ساعة باب الفرج التي تعتبر منارة حلب و التي تقع بالقرب من باب الفرج وهو أحد أبواب حلب القديمة وأمام دار الكتب الوطنية بحلب مباشرة. ، وتماثل في جمالها وطرازها المعماري الفريد من نوعه، وكذلك تحتلّ بقعة من أكثر بقاع المدينة جمالا ونشاطاً وقد بنيت 1899م، وآلة الساعة الميكانيكية إنجليزية الصنع من نفس الشركة المصنعة لساعة بيج بن والتي تعد تحفة أثرية بحد ذاتها.
وأما ساعة حماة فلنا أن نفخر بابن المدينة البار المهندس مسلم صليعي الذي صمم ونفذ بالقطر السوري عدة ساعات برجية والذي استطاع إعادة الحياة لساعة المدينة وإنتاج جميع مكوناتها محلياً .
وتقودنا الحديث إلى مهنة الساعاتي بحماه ومن اشتهر بهذه المهنة فإننا نجد على رأس القائمة آل الصليعي وآل الجاجة والرهوان فقد اشتهر من آل صليعي في خمسينات القرن الماضي الشيخ محمد الصليعي وعبد الحميد صليعي ومحليهما بالحاضر قرب جامع البحصة والمرحوم عبد الله صليعي ومحله قرب سينما حماة والسيد سعيد صليعي محله في المرابط قرب محلات هوانا والمهندس مسلم صليعي وقديما الأرمني ليون في منطقة المرابط والسيد مصطفى الحلبي وكان محله قديما عند جامع المدفن ثم انتقل تحت سينما الشرق والساعاتي الشيخ مصطفى الرهوان مؤذن جامع السلطان والقائمة تطول..
وهناك من الباعة الجوالة لكنها لا تمارس تصليح الساعة …والجدير بالذكر أنه برز من بين مصلحي الساعات المرحوم مصطفى الحلبي وكان معتمداً من أكثر وكالات الساعات السويسرية وأذكر في سبعينات القرن الماضي وأنا بدمشق حاولت ذات مرة إصلاح ساعتي وكانت ماركة موفادو وهي تختص للطيارين شأن نظارة ray ban الشمسية فقال لي مصلح الساعة المعتمد أنت من حماة وعندكم معلم الجميع الساعاتي مصطفى الحلبي وتصلحها هنا وكم فخرت بذلك.
كانت ماركات الساعات في الزمن الجميل لونجين وكانت توزع هدايا من «شركة السكك الحديدية» ثم ساعة زينيت وساعة موفادو توزع للطيارين – وساعة جوفيال – ساعة انفكتا – وساعة انيكار –وانتيكار – وكانت أسعار الساعات تتراوح بين الخمسين ليرة وقلما تتجاوز المئة ليرة وعلى سبيل المثال ساعة أوميغا 100ليرة سورية ساعة جوفيال 50 ليرة من الطرائف أن الساعاتي الشيخ مصطفى الرهوان وكان محله تماماً أمام باب جامع السلطان في ستينات القرن الماضي وقد تسلَّم وكالة ساعة ماركة سوزانا وكنوع من الدعاية شاع خبراً أن كل بنت اسمها سوزانا تمنح من الشركة هدية ساعة مجاناً على أن يقدم إثبات ذلك قيد سجل مدني باسم البنت فتحايل أحدهم وقدم وثيقة سجل باسم ابنته لكنه مد سوزان وزادها الفا فصارت سوزانا ليربح الساعة واكتشف الشيخ غشه من السجل المدني لأنه يستحيل أحد أن يسمي ابنته سوزانا لكن رقة قلب شيخنا الجليل الرهوان لما رأى البنت بائسة فقيرة فقد منحها الساعة مجاناً.
كان لبس الساعة بين الناس ظاهرة تبدو أحيانا للتباهي والغواية خاصة من ماركات غالية وكانت الساعة التي تعلق بسلسال وتوضع بين طيات الشال الهندي يلف الخصر مدعاة زهو وتفاخر وخاصة الموشى غطاؤها بالزخارف والنقوش التي تزينها ومنها ماكان من الفضة الخالصة , وأتذكر أنه حين السؤال عن الوقت من مار في الطريق مثلا فتسمعه يجيبك الوقت إفرنجي أم عربي ؟
وكم أتذكر أناسا يتباهون بساعتهم أنه ورثها عن أبيه أو جده…
وكان في امتلاك ساعة قديماً غاية من طالب المدرسة وأعظم هدية تُمنح له لنجاحه وخاصة في الإعدادية وما بعدها.
كانت ساعات الأمس في صناعتها تتميز بالدقة والمتانة والأصالة على عكس اليوم فجلَّ صناعة ساعات اليوم تجاري وحتى أنك ترى اليوم أن البعض هجر اقتناء ساعة اليد فهو يستعيض عنها بساعة المحمول …
صرت ترى الساعات على بسطات الباعة الجوالين بأشكال وأحجام وألوان غريبة وبات اقتناؤها للمنظر والغواية أكثر منها لمعرفة الوقت , وقد اشتهرت قديما الساعات الجدارية التي تعلق في البيوت والمحلات والمساجد على الجدران, وكان منها أشكال جد جميلة كتلك التي يخرج عصفور صغير من كوخ خشبي صغير يغرد كل ما مضى من الوقت ساعة , أو ساعة جدارية تطرب لوقع صنجاتها كلما مضى من الوقت ساعة، وهناك وهناك، وأيضاً هناك المنبه الصغير الذي كنا نربط زمبركه على الوقت المراد كي ينبهنا برناته وخاصة في الاستيقاظ للمدرسة أو السفر ولم تكن ساعات ذلك الزمان وعلى اختلاف أنواعها ساعة يد أم جدار أو منبه تعمل على البطارية كأكثر ساعات اليوم بل كلها تعمل على الربط بفتل العقرب كي تشد زمبرك الساعة …. ونرى ونلمس اليوم كيف تبدلت أخلاق مصلحي الساعات التي كانت تتمتع من حضور ضمير ووجدان وصدق في المعاملة وفي قيمة أجر التصليح أو البيع إلى معاملة لاتخلو من غش وسرقة شأن مصلحي الجوالات وباعتها وخاصة المستعمل منها… وماذا بعد الحديث ذو شجون.
أهلا بعودة ساعة حماة إلى العمل بعد طول انتظار في توقفها فهي تماثل عودة الروح والشوق والفرح بأمل نترقبه بعودة العاصي لجريانه والنواعير لدورانها..
محمد مخلص حمشو

المزيد...
آخر الأخبار