كان مطرق الرأس حين لاحظت أمه أن دمعة سقطت على سماء خدّه الفتيّ و استقرت على هامش دفتره ، اقتربت منه و سألته بحنان :
ما الذي يقلق طفلي الصغير ؟!
لم يرفع رأسه ، مسح دمعته بكبرياء رجل ، و أكمل كتابة وظيفته المدرسية.
صمتت الأم حائرة فيما تفعل ، فهي تعرف ابنها، تعرف عناده و صلابته رغم أنه لم يتجاوز العاشرة بعد .
و بينما راحت تفكر بالأسباب التي تحزن ابنها الوحيد ، كان طفلها قد وصل مكاناً آخر .
منذ عام تماماً، في مثل هذه الأيام و في هذه الغرفة الوحيدة ركض الطفل نحو أبيه ، قفز في حضنه ، قبّله قبلتين و قال :
أبي ، أريد أن تصنع لي طائرة ورقية ، تكون كبيرة ، أكبر مني بكثير لتستطيع حملي.
ضحك الأب حينها ، ضمّ ولده الوحيد بمحبة ، فتابع الولد :
سأطير بها إلى البعيد ، سأشق دروب السماء ، سأقطف نجمتين ، واحدة لك و واحدة لأمي .
فكّر الطفل قليلاً ثم قال : كلا سأقطف القمر لأمي !
كانت الأم حينها تضع بعض الحاجيات لزوجها في حقيبته ، فزوجها عسكري و اليوم هو آخر أيام إجازته ، حين سمعت ابنها يعدها بأن يقطف لها القمر من السماء ، صغر قلبها ، ارتجفت يداها ، عضّت على شفتيها و أدمعتْ .
لكن ابنها لحظتها لم يلاحظ دمعة أمه و لا فخر أبيه ، كان يمد يده من نافذة طائرته الكبيرة ، يمسك بنجمة فتية بضوء ساطع ، يقطفها من شجرة السماء و يضعها في جيبه ، يهمس لنفسه : هذه لأبي .
ثم ينطلق بطائرته نحو القمر ، كان قمراً مكتمل الضوء كحزنه الآن .
اقترب منه ، أغمض عينيه و مدّ يده ليقطف القمر .
لكن أباه في هذه اللحظة سأله ممازحاً : و لم نجمة لي و القمر لأمك ؟
هل تحبها أكثر مني ؟!
نظر الولد لأمه وقال : لأن القمر يشبه أمي .
لكن الوالد رفض قائلاً : لن أصنع لك طائرة ورقية إلّا إذا جئت بالقمر لي ، و أحضر ما تشاء من النجوم لأمك .
حار الطفل فيما يرد ، فهو يريد القمر لأمه لكن رغبته بالطائرة الورقية كبيرة ، كبيرة بحجم القمر .
تابع الوالد : ماذا قلت ؟!
وقتها نظر الطفل لأمه نظرة اعتذار و قال لأبيه : فليكن القمر من نصيبك و سأحضر لأمي عقداً من نجوم !
ابتسمت الأم .
أنا موافق : رد الأب
ثم أردف بعد ابتسامة :
لكن سيتوجب عليك أن تنتظر حتى الإجازة القادمة ، فلا وقت لدي ، فغداً أسافر .
طوّق الولد بيديه الناعمتين عنق أبيه ، وظل على هذه الحال حتى زاره النعاس فأسلم عينيه للنوم .
زاره القمر يومها في حلمه ، همس في أذنه : أنا بانتظارك !
كانت النجوم تتراقص من حوله على إيقاعٍ من نور .
في صباح اليوم الثاني ، غادر الأب و من يومها لم يعد .
لكنه في آخر اتصال مع ابنه قال له : لا تقلق سأعود قريباً و سأصنع لك الطائرة .
حينها رد الولد : لا تتأخر يا أبي فالقمر بانتظاري ، أخاف أن يملّ !
بعد مدة قصيرة سمع أمه تبكي بحرقة ، اجتمع الناس في منزلهم ، أقاموا لأبيه مأتماً ، و حين سأل عنه، أجابوه : أبوك أصبح نجمة في السماء ، أبوك استشهد !
من يومها زاد حلمه ، يريد طائرة كبيرة تحمله حيث السماء ، سيقطف أباه و يعود به إلى المنزل …….
حين أنهى الولد وظيفته ، وضع الدفتر و الكتاب في الحقيبة و ظلّ مطرقاً صامتاً ، ربّتت الأم على كتفه و قالت : ماذا يا طفلي الصغير ، ألن تقول لي ما الذي يحزنك ؟!
نظر إلى أمه بحزن و أجاب : أريد طائرة ورقية !.
كل الأطفال يصنع لهم آباؤهم طائرات ، يمسكون بها بخيط طويل ، يرمونها في السماء و يلحقون بها ، يطلقون عليها أسماءً ، ينادونها ، و أبقى أنا أنتظر أبي ليعود ليصنع لي واحدة.
اقتربت الأم منه أكثر ، زنرّته بيديها ، و أجابته بدمعها ، لأنها تعرف جيداً أن أباه لن يعود ليصنع لابنه حلمه .
نام الولد ليلتها حزيناً ، في حلمه أيضاً زاره القمر ، اقترب منه و همس في أذنه : أنا و أبوك في انتظارك ، و لن نملّ !
أمسك القمر بيده و أخذه في رحلة في السماء ، رأى نجوماً ، سلّم عليها واحدة واحدة ، اقتربت منه إحدى النجوم وقالت : سأصنع لك طائرة .
ضمّها إليه وقال : أبي!
استفاقت الأم على صوت طفلها وهو يقول : أبي .
قبّلت ابنها و تنهدت .
في اليوم التالي ، بعد أن انتهت المدرسة تجمع الأطفال و قرروا أن يلتقوا عصراً على أطراف الضيعة ، سيطيّرون طائراتهم الورقية و يلحقون بها .
على الغداء قالت أمه له : سأحاول أن أصنع لك طائرة ، ستكون جميلة ، أعدك !
خاف الولد لحظتها ، ارتعش قلبه ، فهو منذ وعده أبوه و رحل دون رجعة أصبح يخاف الوعود .
ارتعب من فكرة أن تغيب أمه و تصبح نجمة في السماء .
عصراً ، تجمع الأطفال ، كل منهم يمسك بطائرته بفخر ، طائرات بمختلف الألوان و الأحجام .
اصطفوا بجانب بعضهم ، أمسكوا بطائراتهم ، بينما أمسك الطفل بوعد أمه ، مدّ يده مثلهم .
صفّر أحدهم فأطلق جميع الأطفال طائراتهم .
طارت في الهواء ، لحق كل طفل بطائرته بينما بقي هو ممسكاً بوعد أمه ، نظر للسماء ، ثبّت نظره نحو القمر ..
لوّح له القمر ، غمزت له نجمة ، و أرسلت أخرى قبلة من الأفق .
و بينما تفرق الأطفال كلٌ في اتجاه، و بدأت أصواتهم تخفّ ، رأى جسماً صغيراً يطير في السماء .
مرّ الجسم الصغير فوق رأسه ، كانت طائرة صغيرة بجناحين تصدر صوتاً خفيفاً ، تتجه نحو القرية الغافية على أحزانها .
لحق بها ، صرخ ، ناداها ، تخيّل نفسه داخلها ، يقودها بفرح ، ينطلق بها نحو السماء ، يقطف أباه و يضعه في جيبه ، و من ثم يعود أدراجه نحو منزلهم .
و قبل أن يهبط بها عند عتبة المنزل كانت الطائرة الصغيرة قد وصلت مشارف القرية ، توقفتْ ، فتوقف تحتها ..
ترنّحت ، ثم أطلقت مقذوفاً انطلق بسرعة فائقة .
استغرب ما حدث .
اتجه المقذوف نحو القرية ، اختار منزلهم ، وتفجّر عند الباب .
سقط قلبه منه ، ارتخت ساقاه ، وصل سمعه صرخة أمه .
نظر إلى يده ، كان وعد أمه قد اختفى .
في اليوم التالي ، قالوا له : المسلحون أرسلوا طائرة مسيرّة تحمل صاروخاً متفجراً سقط في منزلكم ..
ثم همسوا : أمك أصبحت نجمةً في السماء .
رشيق عز الدين سليمان