لقد أحدثت نكسة السابع من حزيران زلزالاً عنيفاً بالمجتمع العربي ,فانبرى الجميع لتقديم إجابة تفسر وتبرر هذه النكسة التي أحدثت شرخاً عميقاً بداخلنا ,فالبعض أجاب بأن الميزان العسكري الصهيوني المدعوم أمريكياً هو السبب ,وذهب البعض الآخر بأن توقيت المعركة كان لصالح العدو ,و…..و……….و….
نجيب محفوظ يقدم رؤيا مغايرة
لقد قدم الروائي العربي العالمي نجيب محفوظ تفسيراً مرعباً ومدهشاً لنكسة حزيران ,وذلك من خلال روايته الرائعة (ثرثرة فوق النيل ) ،بهذه الرواية بيّن أسباب ما حدث ,دون أن يتطرق للجانب العسكري ,فحلل ما يدور في خفايا المجتمع العربي المصري من تخدير وتغيب لبنى هذا المجتمع ,فأكد بأن المجتمع المغيب عن أي فعل مقاوم وحضاري وإنساني لا بد له أن يهزم أمام أي آلية عسكرية معادية , قدم شرائح مثقفة من البيئة المصرية ,فهناك الكاتب والمحامي والصحفي والفنان والموظف ,هي خمس شخصيات ذكورية لها حضورها الفعال بالجانب الأدبي والفني والإنساني بالمجتمع,وفي الجانب الآخر توجد أربع شخصيات نسائية الزوجة والموظفة والطالبة والصحفية,وجميع الشخصيات الرجالية والنسائية تتمرغ في وحل المخدرات والرذيلة باستثناء الصحفية التي تحاول بكل ما تملكه من وعي وقوة وبسالة في تغيير هذا الواقع المخجل .
من الرواية إلى الشاشة..
قام السينارست ممدوح الليثي بصياغة سيناريو وحوار لرواية (ثرثرة فوق النيل ) وأعتقد بأنه أفضل سيناريو أبدعه ممدوح الليثي وقام المخرج المبدع حسين كمال بتحويل النص الورقي إلى لغة سينمائية رائعة فلعب دور الفنان الذي يقدم أدواراً تافهة مثل الرقص على أغنية (الطشت قلي ) وقد تالق الفنان أحمد رمزي بلعب هذا الدور وله من المعجبات الكثيرات ,ولعب دور الصحفي الفنان الكبير عادل أدهم فقدم رؤيا متميزة للصحفي الانتهازي الذي يكتب كل شيء ولكنه لا يقول شيئاً مهماً لبلده ,وقدم دور المحامي الفنان أحمد توفيق ,أما دور الكاتب(ضمير الأمة الغائب) فقد لعبه الفنان صلاح نظمي ,ولكن الفنان الكبير عماد حمدي قد سجل اسمه كمبدع خالد في ذاكرة السينما العربية بدور الموظف الذي يحضر (الشيشة) للحشاشين ,هذه الشخصيات التي تجتمع يومياً في (العوامة) بؤرة الفساد والفحش ,الفنان هو من يصطاد النساء بدءاً من الزوجة الخائنة التي أمسكت زوجها بفعل فاحش مع الخادمة ,ولتبرر لنفسها السقوط في مستنقع الرذيلة فإنها تعامله بالمثل ,إلى الموظفة التي تعيل أسرة كبيرة ولا تجد ما يحسن وضعها المعيشي (حسب زعمها) إلا أن تمارس الدعارة مع الكاتب (صلاح نظمي) وبرعت بهذا الدور الفنانة النجمة سهير رمزي ,وأما من تمثل الجيل الصاعد فهي طالبة الآداب التي تعيش حالة الضياع بين ما تحلم به وغرائزها الحيوانية ,وتفوقت بهذا الدور الفنانة الحسناء ميرفت أمين ,ولعبت الفنانة الكبيرة ماجدة الخطيب دور الصحفية التي تجاهد بكل صلابة ووعي بأن تزيل العفونة التي طغت على سطح المجتمع المصري ,فتكشف لهم حقيقتهم البشعة ,وضعت المرآة أمامهم لتعريهم وبدون ورقة التوت التي تغطي عوراتهم تصفعهم بوضاعتهم ,وتحديداً عندما يقرأ الموظف( عماد حمدي) مذكراتها التي توصف قبح وبشاعة كل واحد منهم ,بعد أن ارتكب الجميع قتل الفلاحة وهم يمارسون فسوقهم في وضح النهار ,والأسوأ من جريمتهم هذه هروبهم بكل وضاعة ,دون أن يطلبوا سيارة إسعاف تنقذ الضحية
حسين كمال يعري الواقع…
لقد برع المخرج المبدع حسين كمال عندما قدم لنا تحفته السينمائية (ثرثرة فوق النيل) بالأبيض والأسود ,وتم إنتاج هذا الفيلم عام 1971 ,بعد سنوات قليلة من نكسة حزيران (الجرح المفتوح) وكان لا بد من مواجهة الواقع القبيح بكل شجاعة ,فحسين كمال لم يضع اصبعه في عمق الجرح ,بل ذهب أبعد من هذا وخصوصاً في خاتمة الفيلم عندما ترك (العوامة) بؤرة الفساد والعفونة النتنة لتغرق في مياه النيل الذي يجرف كل الأوساخ والقذارات أمامه ليرميها بعيداً عن أرض الوطن , هذه النخب المثقفة الفاسدة من شعر رأسها حتى أخمص قدميها , ليقول لنا يجب البحث عن نخب تؤمن بهذا الوطن وتدافع عنه بطهرها وشجاعتها ,نخب مثقفة تضع نصب عينيها مصلحة الوطن أولاً وعاشراً ,ومن أجمل المشاهد التي تختزل مأساة حرب حزيران ,عندما يقدم مشاهد متداخلة بين أطلال مدينة مدمرة بفعل إجرام ووحشية العدو الصهيوني الغاصب ومشهد سحق الفلاحة بسيارة هؤلاء الفاسدين المفسدين (من خلال مونتاج) بغاية الذكاء والحرفية وكأنه يحمل لنا رسالة واحدة (كلاهما قاتل ومجرم) سواء كان عدواً خارجياً أو عدواً داخلياً .حسين كمال قدم تحفة سينمائية ستبقى شاهدة على أمة تبحث لها عن موقع تحت أشعة الشمس .
محمد أحمد خوجة