في كتاب جمهرة أشعار العرب لأبي زيد القرشي حديث للشاعر الأموي الفرزدق حين أتاه ناشئ يسأله عن الشعر ، فقال :
-كان الشعر جملاً بازلاً عظيماً فنحر ، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه ، وجاء عمرو بن كلثوم فأخذ سنامه ، وزهير بن أبي سلمى كاهله ، والأعشى والنابغة فخذيه ، وطرفة ولبيد كركرته ، ولم يبق منه إلا الذراع والبطن فتوزعناهما بيننا (!!)
ولكم أن تتصوّروا هذا الجمل الضخم الذي نحر، فسقط بين الفحول الأوائل من الشعراء ، وقد انقضّوا عليه يريدون اقتسامه ،
وأية قسمة ضيزى !!
فهذا قد ظفر برأسه ، وهذا بسنامه ، وذاك بساقه ورقبته .. ثم ماذا بقي منه؟!
لقد أسقط في يد الرجل ولم يعد هناك من شيء يظفر به ، والفكرة خطرة والرؤية قاصرة ، فكأنما يقول الفرزدق : لا تتعبوا أنفسكم – معشر الشعراء والمبدعين – فلم يبق لنا شيء ، لا إبداع ولا ابتكار ولا أفكار جديدة ، ولا صور ولا خيال فقد أتى الأولون على كل شيء – ولنردد معاً : هل غادر الشعراء من متردم!
* * *
لقد سد الفرزدق الطريق ، وأسدل ستاراً كثيفاً على المتقدمين ، ولم يكتف بذلك ، بل وضع العصي في العجلات واستهان بكل جديد ، على مبدأ أنه لا جديد تحت الشمس وإنما هو كلام مكرور وممجوج يأتي به الناشئون والتابعون، كله ينضج من بئر واحدة ويصدر عن اصل واحد.. فكأنما العقل قد توقف عند تخوم الصحراء.. لا يغادرها ولا يبرح بأفكاره مداها … وكأنما العقل قاصر عن كل ابتكار، منحسر متبلد ليس له إلا الانبهار.. فالأولون رواد، والأولون كشفوا ما كشفوا ونحن باكتشافاتهم نسبّح ، ولم نكن من بعد إلا الصدى !
* * *
على أن الجاحظ رجل البيان والفصاحة والخيال كان أقدر من الفرزدق على فهم الإبداع ، فقال :
-إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئاً فاعلم أنه لن يفلح (!!)
لقد استقبل الجاحظ المسألة بذهن مفتوح وقلب عامر بالأمل والعمل والحرص على الإبداع والابتكار، لا التوقف عند التخوم ، والتفكر بما قاله الأوائل ، فالعقل البشري طاقة حية ، طاقة متفتحة لاتحد حدودها ولا تقف في طريقها حواجز ، العقل البشري قوة ناهضة تشب وتشب، تبدع وتبتكر ولا تني تأخذ بالأحلام والطموحات والرؤى، تفتح أبواباً ، وتمد آفاقاً ، وتجتاز دروباً صاعدة ، ومعرج إلى النور، وإلى الخيال، تحلق في السموات السبع ، وتنطلق ارتقاء وتطوراً ، ومدى مفتوحاً على رحابة الحياة ، وعظمة الإنسانية ، وإشراقة النفس الحرة الأبية .
* * *
ولو أخذ المبدعون بمقولة الفرزدق لخرجوا من دوائر الإبداع ، ولو اصغوا لنغمة : هل غادر الشعراء من متردم ، لما كان لنا هذا التراث كله .. وقل مثل ذلك في فنون الأدب وفنون العلم ، وألوان المعرفة ، وأضراب الثقافة ..
* * *
ليس هناك إبداع كامل الأوصاف ، وليس هناك من حسناء لا ذام لها ، وليس هناك من تدبير لا يعتريه النقص أو التقصير .. ومع هذا وذاك فالحياة متجددة ، والرؤى مفتوحة ، والركض وراء الاكتمال ديدن المجتهدين ، ولا وقوف عند من قال ومن رأى .. من جرب واختبر.. بل سعي دائم ، وأفق مفتوح .. وقلب عامر بالحب والانطلاق لصالح الثقافة الإنسانية..
نزار نجار