يكاد يقتلني الصمت

بالأمس قرأت في إحدى المجلات التي تعتني بشؤون الأدب, خاطرة من عاشق إلى معشوقته، وراقني هذا الحوار الذي دار بينهما, ورحت أتتبعه من مجراه إلى مصبه, إنه رائع وجميل وحفاظاً على ماء وجهه وخوفاً من أن أخدش خدَّ الحوار وتسيل دموع العين, وما زلت أتلهف اصطياد أبعاده ومراميه, وتمنيت أن يكون العشق سبيلاً إلى الحب الحقيقية البعيد عن لغة الواجهات والمسلسلات وبضاعة الأرصفة, وهاهو الحوار بشحمه ولحمه:
تقول له:
ياصُنُوَّ الروح مابك واجمٌ كالسهوب تحت أشعة الصيف اللهابة, وجامد كإهرامات الفراعنة وصامت كالليل في غابة استوائية وبارد كجليد القطب, وشاعر بلا كلمات, وقاضٍ بلا قضية, وابتسامة زائفة خائفة, أنت الوعل اللاهث كالهضاب الجائعة والمطعون برصاصة صياد أحمق تعال.. ها أنذا على ضفاف البحيرة أصطاد الهواء بسنارة الانتظار! وأطعم الأسماك أغنياتي الهادئة, أما كفاك عناداً.. أيها المهووس المغبر الوجه والأصابع الراجفة؟!..
يقول لها : ـ أنت أيتها المتوحشة في أدغال قلبي, هاتي يديك نرقص فوق يباس الشجر نلوح بالأغنيات الشعبية, ونعقد جبيننا بعصابة خضراء نشرب من عب الينابيع المراهقة ونستحم بالغبار المتصاعد من وراء عجبلات البذارة, نزرع الشوندر, نحصد الجلبان, ونعشب حول شجيرات السمسم نختبئ بين وريقات دوار الشمس, ونشوي العرائس على حطب الكروم اليابسة, تركضين ورائي كجدي وراء أمه, تضحكين من شكلي المسرحي.
منفوش الشعر, مهلهل الثياب, حافي القدمين, عاري الصدر, منهمك بتقليب العرانيس على الجمر, ماذا بك هل أصابك الغثيان أم أن هذا نوع من الدلع والدلال؟ وتضحكين بصخب صداه يتجاوب بين الوديان الهائمة خلف الجبال!..
شعرت بانفلات حقيقي من أسر الجمل والكلمات, حاولت لم الحروف إلى بعضها لم الراعي للخراف التائهة عن القطيع, لم أوفق, فرحت في سرحان طويل ـ أصفن كالأرملة ـ من هذا الحوار الجنوني, أهكذا يكون العشق؟!
ـ حاولت مراراً أن أشوه صورتك في خاطري مااستطعت إلى ذلك سبيلاً, ورشفت بوجه الوشاة حفنة من التراب, وهربت إلى حضنك الدافئ ألوذ إليه كخائف داهمته الأشباح في عز رؤياه, ومستجيراً لديك أتوسل الأبواب والنوافذ والكوى, أرصفة الشوارع, رفة الستائر, وشوشة النجوم للقمر, أن أزرع في شعرك المجدول وردة, أدفن في صدرك قرنفلة بيضاء, أرش دربك عطراً وبخوراً وحبقاً ومنتوراً، وأنفاسي الحارقة،..! في عينيك الشاردتين زرعت أصول المحارات, وتحت أقدامك تتنهد القارات الخمس الخمس.. وتغضب البحار, وتغرق البحار, وتغرق الزوارق, وينهد حيل التكايا، ويطغى الموج يعتصب اليابسة، وترتعش المنارات ترفرف النوارس بأحزانها, وتهرب النجوم, تتوه في بؤبؤ عينيك, وهدبها سياجي الأبدي, من حور وزيزفون وصفصاف وبيلسان وورد جوري!
ـ كل القطارات تسافر من محطة قلبي، لاتتسع همومنا وأحزاننا, وكل يوم أشياء جديدة في هذا العالم المتمدن بكل وسائل الدمار, وكل منطقة فيها مايكفيها من مؤونة الويلات والكوارث والحروب وأعاصير تشرد الآلاف وتجربة ذرية تلوث الهواء, تهدد العالم, وانهيارات جليدية, وانزياح في بعض القارات, ومثلت برمودا الأسطورة, والهنود الحمر يعودون من جديد يطالبون بحقوقهم الإنسانية, وممنوع دخول المُلونينَ إلى مطاعم ومدارس البيض, جنوب أفريقيا تمارس التميز العنصري, وأطفال الأنابيب بخير وعافية, واكتشاف قبائل من الزنوج في وسط الأدغال المجهولة, وجنون الطيار الأمريكي الذي علم بما جنته نزهته فوق هيروشيما وإلقاؤه القنبلة الدمار, والكوارث الطبيعية, والغيوم التي تمطر أسماكاً ونقوداً ووحلاً..!
ـ أين أنتِ الأن يارفيقة المشاوير؟ يكاد يقتلني الصمت , وتخنقني الغربة وتلجمني المواعيد الخائبة، لديك عنواني الكامل, لم ألق, وحتى الآن, عتاباً أو كلمة.. أو شتيمة في رسالة, لماذا أنت تتجاهلين معاناتي, فأنا وكلماتي في بحث دائم عنك..! وإلى لقاء تنامين بعافية!.

خضر عكاري

المزيد...
آخر الأخبار