الوعظ والإرشاد مسألة لها أهلها وأربابها, وأما الذي دفعني للكتابة اليوم فهو حنينٌ كان قد استولى عليَّ يغلِّفه ذكرياتٌ عذبة وكلماتٌ خطرت على البال فهاجت لها النفس , في وقت هبت فيه نسمات لطيفة كانت تحمل معها أريج أعوام خلت وعبق زمن مضى فأنعشت الروح والفؤاد , وعندها تذكرت كيف كنا نفهم شهر رمضان
فهو شهر تتجلى فيه النفحات القلبية التي تسمو بها الروح , وفيه تجديد للعقيدة وتسليمها من الداخل , وتحسين للسلوك وتمرين على العبادة ومناسبة عظيمة لخلاص النفس من ذنوبها كخلاص الفضة البيضاء من خبثها .
كنا نستلهم من روحانية رمضان أنه ليس شهر الامتناع عن الطعام والشراب فقط بل هو شهر العمل والقوة والرحمة والأخوَّة , هو شهر التفكير باليتيم وآثاره , والفقر والحرمان وأسراره . والتشرُّد وأضراره , هو شهر تنصهر فيه العواطف الجياشة في نفس المؤمن لتصب في بوتقة العمل المثمر الشريف , فرمضان تذكير للموظف أن عليه القيام بواجبه بإخلاص ومن دون رشوة , كما يذكر التاجر بالصدق والامتناع عن الغش , والمؤمن بصدق إيمانه مع ربه ومعاملته للآخرين دون ضررهم , ويذكِّر الأبناء برضا الوالدين , والمرأة أن تحافظ على شرفها وتؤدي واجبها تجاه أولادها ويذكِّر المعلم بالوفاء في صدق تعليمه , والطالب بجدية تحصيله..و.. و..
ليس رمضان شهر الصيام والقيام والتلاوة و الإذكار فقط , بل هو سلوك وعمل , ونفع عام عن طريق المجاهدة لتصفية النفس من أدرانها , فكم وكم هي الذنوب كثيرة , والعمر قصير . وإذا كان رمضان شهر تُصفَّد فيه الشياطين فما أحرى بالإنسان أن يصفِّد أطماعه وتعديَّاته وظلمه لأخيه الإنسان ..
وليس الطريق إلى الله واحداً فقط , بل إن أبواب الخير واسعة , وكما أن الخير ليس وقفا في رمضان فقط بل في كل مناسبة تكثر فيها النفحات الربانية , وفي كل فرصة تسنح لتقويم النفس وكف اللسان عن الكذب والرياء , واليد عن السرقة وقبض الرشوة , وإن أسس صلاح الدين تتأتىَّ بصلاح النفس وعندها يصلح الزمان وتبقى أشهر السنة كلها رمضان في معانيه السامية بصيام واجب كان أو صيام تطوع , ولنعلم أن من سمات الكريم هي في أن يَهِبَ الخير أينما حلَّ , فإن لم يكن خيره بماله فبلسانه أو عمله أو على الأقل ترك الأذى وضرر الآخرين .
وفي رمضان كم من ذكريات تمر وتلقي أمام الإنسان أنوارها نستلهم منها روح الإسلام في الحكمة والتسامح وحب الإنسان . فكم كان من بين المؤمنين من يطوف على بيوت الفقراء في شهر رمضان مسلمين كانوا أم مسيحيين بل وحتى على الغرباء من سكان البلد وخاصة من المهجرين والنازحين في أزمة الوطن ويأتي بيوتهم سراً يجلب لهم الغذاء والدواء والكساء بل ويجبي لهم من الموسرين , ويدفع عنهم الأذ ى, ويرأف حتى بالحيوان, وكان يكثر السؤال عن أحوال المساكين ويشاركهم فرحهم وأحزانهم والدولة تقوم بالتزاماتها من معونة وطبابة وغيرها لكن العدد المحتاج كبير وكبير
وصورة أخرى من تراث وتاريخ حماة حيث يبرز فيها الوعي العميق وتفهم القيم الروحية وتقدير الإنسانية وبثِّ روح المحبة والتآخي بين طوائف المدينة وكذا شأن وحال كل المدن في سورية الغالية.
و تتوضَّح هذه الصورة أكثر في الكلمة التي قيلت في حفل تكريم رجل دين مسلم كان هو مفتي حماة السيد الشيخ محمد سعيد النعسان رحمه الله , حيث كانت هذه الكلمة تمثل شهادة صدرت عن رجل دين مسيحي كان هو مطران حماة أيضاً سيادة المطران أغناطيوس حريكة رحمه الله وحيث قال: « الجهاد الأكبر هو التغلب على الأطماع والأهواء , وإن الدين الحقيقي ليس أشكالاً ومراسيم ومظاهر بل هو ضمير ووجدان وتضحية وإنكار ذات .فهو يؤمن بالقول الشريف : « خالق الناس بخلق حسن «. فأكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا , والدين حسن الخُلُق . « وما أروعها من كلمات وقد قالها سيادة المطران حريكة بحق الشيخ النعسان وبالرغم من أن الاستعمار الفرنسي حاول أن يجعل منهما خصمين , فقد فشل في ذلك وبدلا عنه كانا حليفين متعاونين في خدمة الإنسان , وكانا يتبادلان التهاني في رمضان والأعياد بل وأذكر أن الشيخ سعيد كان مسؤولاً عن دار العجزة وكان سيادة المطران حريكة نائبه عليها وكانت الهبات الخيرية توزع على الميتم الإسلامي والميتم المسيحي سواء بسواء . قال ابن القيم في كتابه «الفوائد» : «المواساة للمؤمنين أنواع : مواساة بالمال , مواساة بالجاه , ومواساة بالبدن والخدمة , ومواساة بالنصيحة والإرشاد , ومواساة بالدعاء والاستغفار لهم , ومواساة بالتوجع لهم , وعلى قدر الإيمان تكون هذه المواساة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم الناس مواساة لأصحابه» . فاختر من بينها ما شئت .. وأخيرا أقول وبحسرة: آه كم تبدلت أخلاق الناس وأفكارهم وقضاياهم . وفي زحمة أوجاع الحياة علينا أن نتذكر أنه يوجد من بين الفقراء الصائمين من لا يملك على مائدة إفطاره غير «بس ..ميّ , إيه. بس ..مي وكل عام وأنتم بخير
م . ح
المزيد...