تراث : الصوفية من التماهي إلى الشطح

و هل هي فعل أم ردة فعل على حراك سياسي اجتماعي ما.؟؟! وإلى أي العهود يعود تشكل اللبنة الأس للتصوف الإسلامي .؟! هل إلى عهد النبي مثلاً أم عهد الخلفاء الراشدين والصحابة .؟

لقد تحدثنا آنفاً عن ورود كلمة صوفي عبر تراثنا القديم وقلنا بحسب المصادر أنها من عصور ما قبل إسلامية (جاهلية ) وهي ليست بالقريبة من عهد الإسلام , وبيّنا إلى ما تستند إليه هذه الكلمة في معانيها ودلالاتها .. وقلنا إن التصوف من حيث هو حركة أو اتجاه فكري لم ولن تختص به أمة أو دين أو عرق أو ..أو ..عن سواه , ولا ملامح واسمة له تختص بها بقعة جغرافية عن سواها ..
تخبرنا كتب التاريخ والتراث بأن لاتصوف إسلامياً خالصاً في إسلاميته , ولكنه يستقي تربته الخصبة من ينابيع شتى , وتهبّ على شرفاته رياح ونسائم من حضارات عدّة إلاّ أن ما يمكن قوله في هذا الحيّز: إن التصوف الإسلامي ساهم في بلورة وإغناء هذا التيار الفكري العريق تاريخياً وحضارياً ومدّه بقامات عظام تضاهي أساطين التصوف العالمي .

وبغض النظر عن أول استخدام لكلمة صوفي في التراث ..وبغض النظر أيضاً عن مرجعية الفكر الصوفي ونقاط ارتكازه الفكرية ..نقول وكما أخبرتنا كتب ومراجع التاريخ أنه في القرن الثاني للهجرة بدأت إرهاصات تشكل هذا التيار الهام والإشكالي جدا فالدكتور حسن حنفي في كتابه التراث والتجديد يؤكد أن لا صوفية ولا تصوف في زمن الرسول ولا حتى في زمن الخلفاء بل يرى إرهاصات تشكّلها جاءت في العهد الأموي (كانت تشكّلت هذه الجماعات الانعزالية بسلوكها الفاضل وحياتها الروحية الصافية وتكاثرت كمظهر من مظاهر العجز عن مقاومة نظم الحكم القائمة على الاغتصاب والبطش مثل الحكم الأموي فظهر التصوف كظاهرة انعزالية في نشأته وتطور كردة فعل على تكالب الناس على الحياة، وبعد اشتداد وطأة المعارك الحزبية والتناطح بين الفرق وبعد فشل كل محاولات تغيير الأمر الواقع بالقوة واستشهاد الأئمة من آل البيت هل الصوفية فعل ..أم ردات فعل .
أم هي حراك فكري.. فلسفي.. إبداعي.. ديني..طرح ويطرح نظريات وتعاليم خاصة ..مثالية ..تصورية للعالم ..وعن العالم؟

في الشطح وشطح الشطح
وهل الصوفية اختصّت بها جماعة أو ملّة أو طائفة أو دين مثلاً كما قلنا آنفاً .؟؟!
حكما الجواب لا , بل ليست إسلامية بحتة ولا مسيحية ولا يهودية ولا براهمانية ولا كونفوشيوسية ولا بوذية ولا فيثاغورثية ولا أفلاطونية ..ولا .. ولا ..بل هي كل ذلك مجتمعة ومن كل ذلك أيضاً . ويمكن أن نضيف أنها واحدة الطريق والأهداف والغايات ..هدفها الوصول إلى الطريق المؤدية إلى خالق الخلق من خلال التوبة والزهد والعشق والوجد و..الخ ..
وصولاً إلى الكشف , إلى الاتحاد بالله وسط لذّة ونشوة عارمة تقودهم إلى إطلاق ردّات فعل كلامية حيناً وحراكية حيناً آخر , وهم بحالات استهلاك بالأنوار الربانية , لا يمكن فهمها من قبل جميع الناس على حقيقتها , أو في سياقاتها المتنامية , ولكن ربّما -وهذا ما حدث – فُهمت على أنها كفر ونكران لواحدية الواحد , أو على أنها أقل ما يقال فيها عند البعض أنها سلوك غير قويم , يعكس حالات مرض عصابية بحتة .وهي ما كانت لتتأتى لولا تماهي المحدود باللامحدود والمتناهي باللامتناهي بنفس وروح وقلب السالك بحالات ومقامات تدرجها , ورغم ذلك لم يقوَ على تحمّل نورانية ما رأى أو ما تصور أنه رأى فتصدع قلبه وارتجّت أوصاله فباح بما عاشه من لحظات ..هو لم يزد ولم ينقص بشيء تحدّث دون تحفّظ فجاءت كلماته كأنها من سكّير وهذا ما اتفق عليه كمصطلح (الشطح أو شطح الشطح )وذلك لخروجه حتى عن قاموس ومعاجم الصوفيين الأوائل ..
نعم الشطح ..ما الشطح وكيف عرّف .. هل هو انعتاقات المأخوذ من كل حالاته الزمكانية وفناؤه في ما تصور ماهية الآخذ مثلاً ..؟؟
أم كما عرفها أبو النصر سراج الطوسي في كتابه اللمع بقوله : ((الشطح عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوّته, وهاج بشدّة غليانه وغلبته ))
أم كما عرفها السيد علي الجرجاني في كتابه التعريفات بقوله (الشطح عبارة عن كلمة عليها رائحة رعونة ودعوى وهو من زلاّت المحققين فإنه دعوى بحق يفصح بها العارف من غير إذن إلهي بطريق يشعر بالنباهة ).

والبعض أطلق أو وصف حالاتهم هذه بالأمراض العصابية بسبب ما يتردد عنهم من أقوال وأفعال ردّها البعض من غير المتحمسين للفكر الصوفي إلى العزلة والانقطاع الطويل عن الناس .هذه الانقطاعات تسبب اضطرابات و خلخلة نفسية واجتماعية أيضاً، فعندما يلجأ الصوفيّ إلى أعالي الجبال مثلاً ليسكن في صومعة منقطعاً عن الأهل والأقارب وجميع العباد تحت شعارات وأسباب ومسببات واهية محاولاً أن يكون واحداً متوحداً مع ذاته فقط لأن الله واحد متوحد بذاته ,ينقطع عن الطعام والشراب كذلك لأن الله لا يأكل…الخ فكل هذا وذاك يسبب خلخلة في الميزان الاجتماعي والعقلي والنفسي عند بعض الصوفيين ,عدا عن ذلك ما قد وجّهوه من دعوات للركون والسكون والتفرّغ لمجالسة من هو أولى بالمجالسة , ولمحبّة من هو أوجب بالحب.

المزيد...
آخر الأخبار