في أواخر عام 1910 و بداية عام 1911 تميز شتاء تلك الفترة بقساوته التي لم يعرف تاريخ أحوال الطقس من يومها و حتى الآن أشد منها .
كان شتاءً تميز بقساوته و برودته الشديدة على شرق أوروبا و تركيا و بلاد الشام خاصة في المنطقة الوسطى و الشمالية من سورية حيث حدثت فيه ( ثلجة الأربعين يوما ) و كان لحماة نصيب وافر منها .
لقد سمعنا عن الثلجة الكبيرة من آبائنا و أجدادنا الذين عايشوها و الذين ارتبطت بذاكرتهم و أصبح يضرب المثل بها لا بل فقد صارت تسجل وقائع تاريخية و غير تاريخية مرتبطة بتلك الفترة، حيث كان يقال على سبيل المثال ( فلان ولد بعد الثلجة الكبيرة بشهر ) أو ( فلان تزوج بعد الثلجة الكبيرة بشهرين ) و هكذا، فما هي قصة الثلجة الكبيرة أو ثلجة الأربعين يوما . و التي سأرويها من خلال ما رواه لنا عنها الآباء و الأجداد .
في مطلع عام 1911 بدأت الثلوج تتساقط بغزارة في أنحاء سورية و على الأخص في المنطقتين الوسطى و الشمالية و منها حماة بالطبع فقد استمر هطول الثلج لمدة أربعين يوما بشكل متواصل حيث وقع برد شديد و عمَّ الجليد كافة الأسطحة و الطرقات و استمر إلى ما بعد شهر آذار حيث تجمد نهر العاصي و النواعير توقفت و تجمدت المياه المتساقطة من النواعير كما أن المياه في أقنية الري الواصلة إلى البيوت و التي كانت تتزود بالمياه من النواعير قد جمدت أيضا مما جعل الأهالي يقومون بتذويب الثلج للحصول على الماء .
انقطعت الطرقات كذلك فإن سير القوافل و القطارات قد توقف و نفقت الحيوانات وقدرت عدد الأغنام النافقة في حينها بنصف مليون رأس من المواشي أما في المناطق التي غمرها الجليد فإن الوحوش و الضواري هامت على وجهها و توفي الكثير من البشر من البرد الشديد و الأمراض الصدرية . كذلك فإن المسافرين على الطرقات قد انقطعت بهم السبل ليموتوا إما من جراء البرد أو من جراء افتراسهم من قبل الوحوش التي صارت تهاجم أي شيء يقع أمامها بسبب جوعها الشديد .
بسبب البرد القارس فإن الحكومة العثمانية آنذاك ألزمت أصحاب الحمامات في المدن أن يفتحوها ليلا لمبيت الفقراء فيها التماسا للدفء .
روى لنا الأجداد بأن سماكة الثلج تجاوزت المتر الواحد في المدن وفي مناطق أخرى تجاوزت المترين و الكثير منهم تكلموا أنهم عندما كانوا يستيقظون من نومهم صباحا و عندما كانوا يقومون بفتح باب الغرفة المطل على فناء الدار فإن الباب يكون مغلقا من تراكم الثلج أمامه و الذي يصل ارتفاعه إلى المتر تقريبا . كما أن الحطب و الذي كان يشكل عصب التدفئة قد أصبح نادرا إضافة إلى الطعام مما جعل الميسورين يرسلون الطعام و الحطب إلى العائلات الفقيرة و أصحاب الحرف الذين انقطع مورد رزقهم بسبب إغلاق كافة المحال جراء تساقط الثلوج بهذه الكميات الكبيرة .
كذلك فقد روى لنا الأجداد أن الأعمدة الحجرية في بعض المباني التي يزيد عمرها عن ستمئة عام قد تشققت و في ذلك إشارة واضحة إلى أن مثل هذا البرد و الصقيع لم يأت منذ ستمئة عام . كما أن معظم الرخام المفروش في المنازل قد تصدع و كذلك فإن الأواني الزجاجية التي يوجد بها سوائل قد تحطمت بسبب تجمد تلك السوائل . أيضا فإن الحبر الموجود في المحابر و التي كان سائدا استعماله في ذلك الحين للكتابة قد تجمد أيضا في المحابر
مع بداية شهر نيسان و بعد انقطاع هطول الثلوج و مع إشراقة شمس نيسان الربيعية ابتدأت الثلوج تذوب تدريجيا لتصب في نهر العاصي الذي ارتفع مستوى المياه فيه بشكل أصبح يشكل خطرا على البساتين و شوارع المدينة . إلا أن العناية الإلهية تدخلت فلم يحدث الفيضان . كذلك فإن الأهالي عادوا لمزاولة أعمالهم و لتعود مسيرة الحياة إلى سابق عهدها قبل تلك الثلجة
و إلى ذاكرة حموية قادمة
المحامي معتز البرازي
المزيد...