مُصطلح الثَّقافةِ لايزالُ بينَ أخذٍ وَردٍّ, لمْ يستقرّ رأيُ الباحثينَ على تعريفٍ جامعٍ مانعٍ لهُ, شأنُه في ذلكَ شأنُ مُعظمِ المُصطلحاتِ الفكريَّة والفنيَّة الَّتي نتداولُها في أحاديثِنا العاديَّة والعابرةِ, وفي المجالسِ العامَّة والخاصَّةِ.
وكيْ لا ندخلُ في متاهةِ التَّعريفاتِ والمُصطلحاتِ ونقعُ في مَطبِّ الاختلافِ والخلافِ, نتركُ التَّعريفَ إلى الحديثِ عنِ الهدفِ منَ الثَّقافةِ, وهوَ الدَّورُ الَّذي تلعبُه الثَّقافةُ في عمليةِ نهوضِ الوَعيِ بكلِّ أشكالهِ وَمُعطياتِه وَمُستوياته بَدءاً بالفردِ وانتهاءً بالجَماعةِ على المُستوياتِ الوَطنيَّةِ والقوميَّةِ والإنسانيَّةِ, وَبالتَّالي نجدُ أنَّ الثَّقافةَ هيَ الأساسُ الَّذي يقومُ عليهِ المُجتمعُ الإنسانيُّ, ويكونُ دورُ الفردِ فيها دَوراً فَعَّالاً يجعلُ منهُ قوةً إيجابيَّة في عمليةِ البناءِ.
ولوْ عُدنا إلى المعجمِ لنبحثَ عنْ مصدرِ كلمةِ ثقافة لوجدَنا أنَّ أغلبَ ما يدورُ عليهِ هذا الاشتقاقُ هوَ التَّقويمُ والتَّعديلُ والتَّهذيبُ, ولذلكَ قالَ العربُ قديماً (ثقّفَ الرُّمحَ أيْ قوَّمَه) كما قالَ عنترةُ يفتخرُ : جادَتْ يدايَ لهُ بعاجلِ طَعنةٍ بِمُثقفٍ صَدقِ الكُعُوبِ مُقوّمِ ونلحظُ هُنا أنّ الكلمةَ ذاتُ دلالةٍ ماديَّةٍ, أمّا الدلالةُ المعنويَّة فلَها معانٍ كثيرةٌ, مِنها ما هُو ذو دلالةٍ نفسيَّة كالحَذقُ والفِطنَة, ومنها ذو دلالةٍ فكريَّة كالعلومِ والمعارفِ والفنونِ والآدابِ وشؤونِ الحياةِ, أوْ ما صنَعَه الإنسانُ وأنتَجَه في بيئتِه مادياً أوْ معنوياً كالمُخترعاتِ والمُنشآتِ والأجهزةِ والآدابِ والفنونِ والقانونِ والأنظمةِ.
كَما يُمكنُ أنْ تكونَ الخصوبةُ الفكريَّة وتنميةُ الوَعي وتقويمُه وفقَ إرادةٍ فرديّةٍ واجتماعيّةٍ, طلباً للسُّموِّ العقليِّ والنفسيِّ والرُّوحيِّ, بكلِّ مجالاتِه في حاضرهِ ومستقبلِه.
وَهُنا نصلُ إلى دورِ الأدبِ في الثَّقافةِ, فالنَّشاطُ الأدبيَّ هوَ جزءٌ لا يتجزأُ منَ الثَّقافةِ, بلْ يُمكنُ أنْ يكونَ أكثرَها تأثيراً في النُّفوسِ, ودورُه دورٌ أساسٌ في تقويمِ النُّفوسِ وتهذيبِها, على الصَّعيدِ الفرديِّ والاجتماعيِّ والوطنيِّ.
لأن الأدبَ هُو المجالُ الرَّئيسُ لعلمِ الجمَالِ, وللنَّقدِ الفنِّي والأدبيِّ. كَما يتَّسِعُ مجالُ الأدبِ ودورُه في الَّثقافةِ بِما يمتلكُه منْ عُمقٍ فكريٍّ وَوُجدانيٍّ يكشفُ عنْ قدراتِ الأديبِ ومَهارتِه في تصويرِ أعمقِ وأجلِّ الأفكارِ والآراءِ الفلسفية للحياةِ الإنسانيَّةِ في قالبٍ فنِّيٍّ (منْ قصصٍ وَمسرحياتٍ وشعرٍ) يُؤدِّي الرِّسالةَ الَّتي وُجدَ منْ أجلِها الأدبُ.
إنَّ دورَ الأدبِ دورٌ لا يمكنُ تجاهلُه عبرَ التَّاريخِ في نشرِ الوَعي وتحريكِ المشاعرِ وتنبيهِ الناسِ على اختلافِ مُستوياتِهم, وَهذا الدَّورُ كَما سبقَ هُوَ لُبُّ عَملِ الثَّقافةِ ومُحورُ وجودِها .
لكنَّ الَّذي يجبُ الانتباهُ إليهِ في حركةِ الثَّقافةِ والنَّشاطِ الأدبيِّ هوَ الاهتمامُ بالكيفِ أيْ بالسَّويَّة والمُستوى النَّوعي للثَّقافةِ, وعدمِ تغليبِ الكمِّ وغزارةِ الإنتاجِ الأدبيِّ الَّذي يسبِّبُ أوْ يؤَدِّي إلى تسطُّحِ الثَّقافةِ وضعفِها وانحدارِ مُستوياتِها, لذلكَ نجدُ ضرورةَ الانسجامِ بينَ المُستوى الفنِّي والفِكريِّ للأدبِ وبينَ غزارتِه كضرورةٍ حتميَّة ليكونَ الأدبُ عمادَ الثَّقافةِ وقطبَها في نشرِ الوَعي وتنميَّةِ الفكرِ وبناءِ المجتمعِ .
فائق موسى