لو وضع كلٌّ منا نفسه تحت المجهر، أو عرضها للتشريح، أو لنقُل لو قام بحفريات لبحث مكوّناتها، بموضوعية وحيادية قدر المستطاع، مع أن العملية ليست بسيطة كما نعتقد للوهلة الأولى، فالنفس البشرية مركبة وفي غاية التعقيد، والانسجام الظاهري فيها يعكس تناقضات عميقة في الداخل، وتنوعاً في التكوين، إلا أن التنوع والتناقض فيها لا ينفيان وحدة التكون. الإنسان في تشكّله الداخلي، صورة مصغرة عن العالم، وهو ابن التاريخ وصناعة البيئة الجغرافية، تصقله وترسم ملامحَه العامة الثقافةُ التي يتحصّل عليها، وبما أنه لا يوجد ثقافة صافية أو نقيّة، وإنما تمازج ثقافات وتنوّع معارف، وتعدّد مصادر، لذلك كانت النفس البشرية محصّلة تفاعل، ليس تضايفياً وإنما تفاعلياً لكل ما يمتلك الإنسان من معارف.
استناداً إلى ذلك، من حق كل إنسان أن يعبّر عن تعدديته في إطار وحدة التشكل، بالطريقة التي لا يسيء فيها للآخرين الذين يملكون الحق نفسه في التعبير عن أنفسهم والإدلاء بآرائهم، وفي اتخاذ مواقف تنسجم مع مرجعياتهم النظرية ومصادرهم المعرفية. الخلاف في الرأي والمرجعية، يعكس موضوعية التنوع، فالحياة تنوع واختلاف، وأكبر دليل على ذلك هو غنى الطبيعة المحيطة بالإنسان التي هو جزء من مكوناتها، يتشكل من خلالها في الوقت الذي يعبّر تكوينه الداخلي عنها بوعي منه أو بشكل عفوي.
هذا التنوع والاختلاف في التكوين الداخلي، الذي ينعكس على المجتمع بتنوع أغنى وأعمق، يشكّل أحد أهم مقومات الوحدة والانسجام الاجتماعي تماماً، كوحدة النفس البشرية وانسجام تكوينها. صحيح أن المجتمع مكوّن من فئات وطبقات لها مصالح متعارضة أحياناً ومتصارعة أحياناً أخرى إلى حد التصادم، لكنها، في محطات تاريخية محددة، تميل إلى التوافق والتصالح من أجل تحقيق الأهداف العليا للمجتمع ولكل فئاته الاجتماعية. مكونات الوحدة الوطنية في لحظات تعرُّض الكلية الاجتماعية لتهديدات التفكك والانهيار، لابد لها من الترفع عن مصالحها الآنية، وتجاوز ضيق أفقها، بالانفتاح على المصلحة الكلية للمجتمع.
وعليه فاختلاف الآراء ووجهات النظر المتعددة إلى القضية الواحدة، والحوار بين الآراء المختلفة يؤدي إلى خيارات أقرب إلى الصواب مما لو اقتصرت الأجوبة على فئة أو رأي أو وجهة نظر فئوية، لا تتعدى أجوبتها حدود مصالحها.
حرية الرأي (الاعتقاد) حق لكل مواطن، ولا يكتمل هذا الحق إلا بحرية التعبير التي يجب أن تصان دستورياً وعملياً، فمهما تنوعت الآراء، واختلفت المواقف وتصادمت، يمكن أن نجد لها حلولاً إذا أتقنّا إدارة الحوار على أساس التكافؤ فيه، وتخلّصنا من أوهام امتلاك الحقيقة وادّعاء تمثيل الكلية الاجتماعية.
إن طرح الأفكار والمفاهيم الجديدة هدفه تحريك الواقع الآسن، وتحرير الناس من الأوهام العالقة في أذهانهم بحكم التقادم والألفة والاعتياد. لكن هذه الأفكار والآراء عليها أن تجد طريقها إلى الواقع، فمهما كانت مفيدة وملحة لابد لها من تربة صالحة تتقبلها، فثمة تساوق بين شروط إنتاج الأفكار وظروف تلقيها.. فلكي تثمر هذه الأفكار وتأخذ مفاعيلها في الانتشار، لابد لها من حوامل اجتماعية تنهض بها وتدافع عنها وتنشرها بين الناس، لأن التملك المعرفي لهذه الأفكار من قبل الحوامل الاجتماعية يحيلها إلى قوة مادية وسلاح لمقاومة الفكر الظلامي المتخلّف الذي تجاوزه الزمن لكنه مايزال يمارس مفعوله وحضوره على الساحة الاجتماعية. لا يكفي أن تكون الأفكار نيّرة وضرورية للمساهمة في فعل التغيير، فلابد لها من أرض قابلة لاحتضانها وإنضاجها، وعلى أصحاب هذه الأفكار التروي في طرحها للتأكد من قابلية استيعابها، والإمكانات المتاحة لامتلاكها، وبالتالي الدفاع عنها. الفكر يقاوم بالفكر مادام فكراً لا يلجأ إلى الإكراه أو العنف، ولا يتحول إلى السلاح.. والفكر الإقصائي المغلق يجابه بمزيد من الانفتاح، والأحادية في التفكير يقابلها التنوع في إطار الوحدة، والنجاح مرهون بملاءمة الأفكار لاحتياجات الراهن، واستحقاقات المستقبل، فالفكر الجيد يطرد الفكر الرديء، والجهل لا يمكن له أن ينتصر على العلم إلا إذا كانت حوامله متخلفة أو تتستر بطرحه على خلفيات مخفية تعمل على إعاقة انتشاره عملياً. فن إدارة الاختلاف والتنوع هو الضمانة الوحيدة لحوارية الأفكار وتفاعل المفيد منها، والتخلص من الضار والهدام والمعيق للتطور.
د.عاطف البطرس