لقد ظهر مسرح العبث بعد الحرب العالمية الثانية , وكانت أخطر وأفظع تجربة دموية تكابدها البشرية ,إذ دفعت البشرية ثمناً باهظاً تجاوز الأربعين مليون ضحية (قتيلاً) بين رجل وامرأة وطفل ,هذه الحرب المجنونة جوهرها من يقود ويسود العالم , ربما يتصدر المشهد الدموي (هتلر) ولكن روزفلت وتشرشل وستالين هم الوجه الآخر له .
صموئيل بيكت يشهر عبثيته
أول من أسس لهذه المدرسة الأدبية المسرحية هو الكاتب الإيرلندي الأصل صموئيل بيكت عندما أصدر مسرحيته الشهيرة (في انتظار غودو) التي حيرت النقاد ….حوار غريب عجيب … ربما هو حالة من الهذيان …الجميع في انتظار غودو …هي رؤيا لواقع وحشي دموي , نازي يسكنه جنون العظمة والسيادة للعرق الآري (الألماني) يعبث بحياة البشر وكأنهم فئران اختبار , تبيض الأرض من المجازر والفظائع التي ارتكبها وهو أسير حلم هستيري ,وهكذا أسس(بيكت) لوعي معرفي مختلف عن السائد ,وكأن البشرية تنتظر حلاً ما …خروجاً من هذا الجحيم الذي أطبق على الإنسان المعاصر , هل المطلوب من الإنسان أن يرفع يديه للسماء متوسلاً فرجاً وهو مكتوف الأيدي ,لأن ما حدث ويحدث ينتمي للامعقول ,هي مسرحية بلا عقدة ولا بداية ولا نهاية , تقرؤها ملياً تصاب بصداع أدبي عما يريده وعما يسعى إليه ,ليست هناك حبكة ولا تفرض حالة من التوتر ,وربما هي ذبذبات الإحساس مشحونة بالقلق العام الذي يسطر على هذا الفضاء اللامنتهي ,وكأن البشرية تمشي في متاهات الوجود منذ آلاف السنين وهي تبحث عن شرطها الإنساني دون جدوى .
كتاب غرقى في لجة عبثية
لقد أيقن كتاب مسرح العبث (اللامعقول ) أمثال جلبيرت ,ألبي , براون , وأرثر كوبيت في أمريكا , وسمبسون ,هارولد بينتر ,وجون أردن في انكلترا ,وبيكت ويونسكو وجان جنية في فرنسا ,عقم التنظيرات والأيدلوجيا السائدة وخصوصاً أمام هول المجازر الجماعية , وكأن كل ما أنتجه العقل المعرفي العالمي ليس أكثر من هراء وثرثرة بلا صدى ,نعم وقف الإنسان المعاصر عارياً دون ورقة التوت تخفي قليلاً من رعبه بالحاضر والمستقبل الأسود .
وكتب ألبير كامو في (أسطورة سيزيف ) مستحضراً ضياع الإنسان في عالم بلا قيم أو مبادىء فيقول : العالم الذي يمكن أن يفسر عن طريق التفكير المنطقي هو عالم مألوف ,أما في عالم جُرد فجأة من النور ومن الخيال فإن الإنسان يحس بأنه غريب ,إنه في منفى لا مفر منه ,لأنه مجرد حتى من الذكريات (الأرض-الدار) ولأنه مجرد حتى من الأمل بأرض موعودة ,وهذا الانفصال بين الإنسان وحياته ,بين الممثل ودوره ,يتضمن إحساساً باللامعنى واللامعقول .
تبدو المفارقة المرعبة بحياة الإنسان المعاصر وكأنه أسير حلقة مفرغة ,كل شيء يوحي بالخواء والهذيان ,وهكذا يبدو الكابوس قد سكن في داخله رغم مقاومته له تقول الكاتبة والناقدة غادة السمان : ربما كان البسطاء أكثر فهماً من مثقفينا لحالات اللامعقول هذه , إنهم يحسونه شيئاً خفياً قائماً في صلب الأشياء بطريقة ما , ويعبرون عنه أحسن تعبير في أمثالهم الشعبية .
محمد أحمد خوجة