ألقى الدكتور عبد الفتاح محمد محاضرة في صالة جمعية العاديات حضرها جمهور نوعي من المثقفين والشعراء وعشاق الأدب عن حياة الشاعر بدر الدين الحامد الذي قال:
كنت بالأمس شاعراً للغناء
وأنا اليوم شاعر للبكاء
ونقتطف من محاضرة الدكتور عبد الفتاح محمد ما يلي:
غنائية الكلمة
بين الكلمة الشاعرة واللحن الأصيل وشائج قربى، فموسيقى الشعر وشيجة واختلاط اللحن بالكلمة وشيجة ثانية، واستواء الكلمة على أوتار الحناجر الذهبية وشيجة ثالثة.
وإذا كانت الكلمة ملحنة مغناة، كان الفن, وكان الجمال، وكانت بعض أسرار الوجود.
(أعطني الناي وغنِّ فالغنا سر الوجود)
والقيثارة في أصل دلالتها آلة موسيقية قديمة، وقد تطلق مجازاً على الشعر ، وعلى الشاعر، وعلى هذا قول شاعرنا:
ياسعد في حلب هل أنت تذكرني قلبي إليك، وشعري فيك قيثار
الشاعر البدر
آثاره تدل على أنه شاعر موهوب، مطبوع، مخلوق للإنسان، زاده في ذلك قريحة متوقدة، وموهبة هادية، وفطرة سليمة، وذائقة مترفه، يقول في تكريم الرئيس شكري القوتلي:
حررت ذل رداء الفخر يوم جلو ولي من القلب شعر فيك مطبوع
وإذا ما أضيف إلى هذا ما عند الشاعر من تنغيم وتطريب غدا الشعر رائعاً، والقصيد ساحراً:
ورحت أملأ سمع الدهر أغنية على الدهر ترديد وترجيع
والشاعر البدر يرى في نفسه ذكرى مترفة، وبياناً مسموعاً:
ذكرياتي حوافل وبياني أصبح الآن مطلقاً في السراج
ولهذا ولغيره وسمه صديقه الأديب أحمد الجندي بأنه شاعر مطرب، وعبقرية نادرة، راحته في حديث شهي أو في صوت مطرب نديِّ.
شعره وطني مكافح، معبر عن الآمال، ومشارك في الآلام، ولكن شعره الحق في أغانيه المطربة، ومقطوعاته الصغيرة في اللهو والشراب ، فيها نبض قلب الشاعر، واهتزاز نفسه الطيبة الخيرة.
هو حيناً قيثارة بكاء
قيثارة النغم الحزين تطبع الديوان بميسميها، فغالباً ما كان يواجه الدنيا في إدبارها ، ويشكو الوحدة، وفقد الشباب والأصحاب، يرى الوجود خيالاً، وطيب العيش سراباً، نهاره شجن، وليله قنوط، ربعه مهجور، ونوره خابٍ..، فتنطلق قيثارته بالحزين من أنغامه.
نغم الدنيا بكاء وأنا ذلك الباكي على ذاك النغم
ومن مظاهر شقائه أيضاً، بكم لسانه، وغبض بيانه، وجفاف منبعه، وانطفاء أنواره، وغياب رجائه:
يانواعير ذكريني فقلبي خافق مثل قلبك الدّوار
وابعثي الوجد والأسى بأنين يترامى في ظلمة الأسحار
كنت أرجو عذب القريض ولكن أبكمتني عوامل الأكدار
وثمة أبيات تكشف لنا عن أسرار نغمه الحزين في أشعاره, فيقول:
ذكرتُ عهد الصبا واليتم يغمرني وكان سعيي إلى الغايات محدودا
عصفور دوحٍ أغني غير مكترث ظمآن حيران أقضي العمر مجهودا
أبي وأمي في بطن الثرى وأنا أجني من الدهر تعذيباً, وتنكيدا
ولهذا خاطبه صديقه أحمد الجندي بقوله:
ياشاعر العاصي الذي نال الصدارة بالألم وهو حيناً قيثارة جمال وغناء
وللشاعر مقطوعة جميلة عذبة نظمها في الخمسين من عمره أعلن أنه أعتق نفسه من إسار السياسة, وصاغ فيها أهدافه الحقيقية التي حاد عنها, يذكر فيها أنه قيثارة جمال وغناء, وأن نفسه مخلوقة للفن والحب والرجاء وأن شعره شدو يتغنى به الناس, وهو ابن الحياة، وحياته: ليال ماتعة, وشعر ندي, وندامى كرام:
الجمال الأصيل يشغل عيني والغناء الجميل يملأ أذني
ولي الأرض والسماء ونفس للتغني, وللهوى, والتمني
صاغني الله غناء وشعر أنا غير روضة فوق غصن
كنت اشدو فياخذ الناس عني ويغنون ما أقول بلحن
وأنا ابن الحياة , فالكأس كأسي في الفسيح الرحيب, والدن دني
وهو حيناً قيثارة تجود وتجدد وترتل.
الشعر إكسير حياته , منحه زهرة شبابه, وفيض روحه , ونبض قلبه , في سبيل تجويده وتجديده.. ولذلك كان يطرب لتقريظ شعره , والثناء على أدائه ., ولنا في القصيد التي وقفها على رثاء خاله الشيخ الفاضل سعيد الجابي مثال جلي, والقصيدة من عيون شعره فناً, وحميمية, وإنسانية:
والشعر روحك عندي رقة وهوى حسبي بأني أعيد الروح ترديدا
قد كنت تسألني شعري وتطرب من ترتيله عندما ألقي الأناشيدا
كم مرة قلت لي: أحسن رثائي من بعد الممات , وجود فيه تجويدا
هذا رثاؤك ياخالي حبست به على الوفاء لسان الشعر تجديدا
ملأت من قبل هذا الجو تغريداً واليوم أملؤه نوحاً وتعديدا
قيثارة بين سكرين
( بين سكرين) موشح صاحبه لحن شجي ندي, وصدحت به حناجر غير واحد من أهل الطرب كلماته مطبوعة منسابة , صور الشاعر حالة فريده له, عاشها فأجاد التعبير عنها, ولايعرف الشوق إلا من كابده, سكر مضاعف, سكر ابنة الكرمة , وسكر الحب:
أنا في سكرين من خمر وعين واحتراقي في لهيب الوجنتين
لاتزدني فتنة بالحاجبين
ياحبيب أقبل الليل فهيا للمُدام وابعث العود يفنينا تراتيل الغرام
صلاح أورفلي