لم يعد خافياً على أحد أن علم التاريخ باتَ علماً له أصوله ومناهجه العلمية, وإن أغلب جامعات العالم باتت تمنح شهادات الليسانس والدبلوم والماجستير والدكتوراه في التاريخ, وفي أدق الاختصاصات, كأن نقول مثلاً: ماجستير في اقتصاد مملكة ماري, أو دكتوراه في الحياة الفكرية عند الفاطميين, أو دكتوراه في مدن العصر الهلينستي في سورية … إلخ, وإن الحاصل على هذه الشهادة, هو الأعرف والأعلم بكل تفاصيل وخلفيات اختصاصه, الذي حصل عليه بعد دراسة تجاوزت عشر سنوات.
إذاً نحن أمام علم له مُختصوه وباحثوه, كأن نقول مثلاً: دكتور في أمراض الدم, أو دكتور في اختصاص النقل والقدرة … إلخ. ولم يعد خافياً على أحد, أن أغلب الدول الاستعمارية كـ (ألمانيا, فرنسا, بريطانيا, الولايات المتحدة, واليابان … إلخ) إضافة إلى الدول التي – عادةً –نُطلق عليها صفة (الحضارية) هي من أهم دول العالم اهتماماً بعلم التاريخ, وليس أدل على ذلك, من أن كل البعثات التنقيبية التي تجول في كل دول العالم, بحثاً عن تواريخ تلك الدول, هي من الدول (المُتحضرة) وذلك بُغية, إما طمس تواريخ تلك الدول الأخرى, أو بغية سرقة تاريخها, وعلى الأغلب, الاستفادة من هذه التواريخ والتجارب الإنسانية المهمة في خدمة قضاياها الحضارية. مع العلم أن كل القائمين على هذه البعثات التنقيبية, يحملون شهادات الدكتوراه من أعرق الجامعات الأوربية, كـ أكسفورد أو السوربون … إلخ.
وهم من قاموا بسرقة آثار وكنوز العراق وسورية في الآونة الأخيرة.
ولم يعد خافياً على أحد – أيضاً – أن أكبر مُنظِّري السياسات العالمية, خاصة في الدول الكبرى, هم من المُختصين بالتاريخ, وفي مقدمتهم برنارد لويس, وهو غني عن التعريف لمن يرغب.
وأمام, كل هذه المعطيات, ألا يُعتبر التاريخ من أهم علوم العصر الحديث؟. وأليس الحري بنا التوقف عن الهجوم على علم التاريخ, والتهكم به, وبعلومه, حتى وصل بالبعض المطالبة بالقطيعة مع التاريخ, وكل ذلك تحت شعارات واهية لأناس جاهلين, يأتي في مقدمتها (الماضوية, التغني بأمجاد الماضي, ضرورة النظر فقط نحو المستقبل … إلخ) وهي كلها كلمات حقٍ يُراد بها باطل, لأننا عندما ندرس التاريخ, تكون غايتنا الاستفادة منه ومن العبر الموجودة فيه, وليس التغني بأمجاده, فلو تعلمنا من سابقينا أسس بناء الحضارة, لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن. لذا, أليس الحري بنا الوقوف أمام العديد من مُدَّعي الثقافة, الذين لم ينفكوا لحظةً من إتحافنا كل يوم بمحاضرات عن معرفتهم بالتاريخ, وهم يخطئون بثلاث مفردات من أصل كل أربعة. وذلك تحت غايات عاطفية (جيّاشة) لا تمت للعلم بصلة.
فالتاريخ لا يُكتب بالعواطف والرغبات, بل بالعلم والمنهج العلمي والوثائق. أقول: لم يعد من المسموح به, التطاول على علم التاريخ, واعتباره علماً مُباحاً للجميع, فدعوه للمُختصين, مع الاعتراف بوجود قلَّة قليلة جداً من غير المختصين, ممن أثبتوا جدارتهم بهذا العلم, بعد جهودٍ كبيرةٍ منهم, ولا يتجاوز عددهم أصابع اليدين في سورية!!.
نزار مصطفى كحلة