عندما يكون القمر مؤنسك في لياليك المظلمة، وعندما تكون النجوم منارة تضيء كراسك المحمول بين راحتيك طوال الليالي فحتماً، وقولاً واحداً ستنال مرتبة مرموقة.
شخص عزَّ عليه أن يبقى أثير الضعف والخمول والفقر فانطلق يجوب في بحور العلم.
عاش في كنف جدته وتربى على يديها في بيت خشبي مأجور بعدما مدّ الردى يديه لوالديه في حادثة غرق في نهر القرية، تلك القرية حيث أنزل فيها الفقر مقيماً سرمدياً وزار الجهل كل منازلها فما تكاد ترى شخصا من أبنائها قد أنهى المرحلة الابتدائية إلا وتكون أعجوبة تضاف إلى عجائب الدنيا السبع إن صح التعبير.
كان يحب أن يعلم ما الذي يحصل حوله!.. كيف للماء أن يكون عديم اللون والرائحة والطعم!.. وكيف له أن يتجمد أو يتبخر فكانت الكيمياء عشقه وشغفه.
طلب المساعدة من جاره الأستاذ فرفرف الأستاذ فرحاً وغبطةً كطائر حصل على وليمة يومه، وذلك لأنه لم يعلم حرفاً واحداً في مدرسة قريته التي أصبحت شبه مغلقة منذ أن تخرج أستاذ كيمياء جامعي.
وطلب منه أن يعلمه بعض الرموز والتكافؤات الكيميائية وأن يدربه على إتقان بعض التفاعلات البسيطة لتكون مفتاحاً لتفاعلات ضخمة ومعقدة.
وبرغم حبه للكيمياء إلا أنه كان أمام خيار صعب إما أن يتابع في مثابرته ويكون يوماً مخبرياً متميزاً في إحدى أضخم مخابر بلاده أو أن يتخلى عن حبه للكيمياء ويكمل درب ابيه النجار كبقية أبناء القرية.
ولكن جدته التي كانت بمثابة أم وأب وأخ ومرشد لم تسمح له بالتراجع وكانت تلقي عليه بعض الأمثال التي تشجعه بقولها: يابني لكل إمرىء ماأحب ونوى… تفاءل بما تهوى يكن.
فاستمع لنصيحتها وقررّ أن يتابع في هذا المجال. اتخذ من كرسيه الخشبي المتواضع بالقرب من النافذة منزلاً ومن الطاولة التي أتعبها عمرها الطويل مخبراً يعينه على إجراء بعض التفاعلات.
وجاء بكل قوارير منزله الزجاجية وصنع منها ما يلزم لمخبره الصغير.
اشترى كتاب كيمياء تطبيقية، وكان كلما يقرأ تجربة ويفهمها بشكل صحيح يصرخ قائلاً: نجحت نجحت.
وهكذا أمضى أوقاته نجاحاً تلو الآخر.
وقعت الفاجعة حينما أخطأ في تنفيذ إحدى تفاعلاته بإضافة كمية كبيرة من مادة ما تزيد على الكمية المطلوبة، فشلت التجربة بسماع أصوات وفرقعات أدت إلى أذية التوتر الكهربائي الذي كان على ارتفاع مناسب من النافذة فاشتعلت النيران في أطراف النافذة وامتدت إلى داخل الغرفة ولم يستطع ذاك الشاب البالغ من العمر سبعة عشر حولاً أن يطفئها.
ظلت النيران مشتعلة حتى ابتلعت الغرفة بما فيها وحولتها إلى رماد منثور هنا وهناك.
أتى أبناء القرية واستطاعوا إخماد الحريق قبل أن يمتد ليبتلع بقية المنزل.
عند الصباح كان الشاب والجدة جالسين بالقرب من المنزل متأثرين بما حدث، جاء صاحب المنزل وقرر بعدما رأى أن معظم جدران المنزل قد تحطمت أن يطرد الشاب والجدة.
لم يستطع الشاب أن يبقى صامتاً وراح يرجوه أن تقيم الجدة في الجزء المتبقي من المنزل ووعده بإصلاح المنزل.
فردّ عليه بقوله: ألا يكفيني أنك تقيم فيه دون أي مقابل والآن تريد أن تحرق الجزء الآخر، أذهب وأرحل لاأريدك هنا!
راحت الجدة تهون على حفيدها بعدما رأت ملامح الحزن واليأس قد ارتسمت على وجنتيه، وطلبت منه أن يأخذها إلى دار العجزة لعلها تعيش فيها بقية أيامها وأن يذهب هو إلى مكان يحتضن مواهبه وقدراته.
لكن الشاب رفض تماماً ذلك مع الإقناع المستمر من قبل الجدة راح يبحث عن مكان يحتضن حبه وشغفه للكيمياء.
بعد زمن من البحث الطويل والعمل المستمر سمع أن هناك ملتقى للمتميزين الشباب اقامته إحدى القرى المجاورة الأشبه بالمدينة.
ففرح كثيراً وقرر أن ينضم إلى ذلك الملتقى ويكمل طريقه في عالمه الإبداعي الخاص نهاراً.
أما ليلاً فوجب عليه أن يعمل في إحدى المكاتب كي يوفر بعضاً من المال لأجل جدته.
مضت سنوات مزجت بين النجاح والتعب وبين التميز والفتور وقدم الزمان شخصاً ما واقفاً على منصة تكريم مرتدياً قبعة سوداء وفي يده شهادة لُفّتَ بخيط أحمر.
إنه الشاب (عدي) الذي كان الأول على أصدقائه في ملتقى المتميزين للعلوم الكيميائية، اسرع لجدته فرحاً ورمى القبعة صارخاً تحققت الأحلام ياجدتي! تحققت الأمنيات ياجدتي…!
نور عبد الرحمن الشيخ يوسف