وتتعالى الأصوات ، ويعبق دخان السجائر أجواء الغرفة ، ويضيع الحابل بالنابل والضجيج يهرب من بعض اللعنات والشتائم من شقوق النوافذ المغلقة مخافة البرد الذي يسيطر على الطبيعة في خارج الغرفة .
شعراء ، ونقاد ، ومن محبي الأدب ، تجمعوا يتناقشون ، ويتحاورون حول الشعر ، والقصة ووسائل النشر ، وبعض المهرجانات والامسيات التي تقام في جميع مناطق البلاد .. قسم منهم مع القصيدة التقليدية ، وحجتهم أنها قريبة من الفهم وموسيقاها تلامس الناس ، وقافيتها رنانة حماسية .. ومفرداتها من البيئة ، بعيدة عن الرّمز المقيت ، والتهويم والضبابية حيث لا يفهم الجمهور ماذا يريد الشاعر ؟ !
وقسم مع الحداثة الشعرية ، مع القصيدة التي لا تفهم إلا بعد قراءتها مرات عديدة ، حيث يعاني القارئ معاناة الشاعر ، بعيدة عن الألفاظ العادية المستهلكة ، حيث لا شفافية ، ولا رؤيا … أو رؤية ، تفتح آفاق المستقبل ، يبشر وكأنها قصيدة ( رسولية ) تتخطى الواقع المعاش … وموسيقاه نابعة من ألفاظها ، حيث المفردة الشعرية تأخذ وتبدع موسيقاها ، بتوترها وتواجدها .. الطبيعي في بنيان القصيدة .
ويحتد الصراع ، وترتفع الأيدي ، وتتشاور الأصابع ويبدأ الناقد .. يعني هذا الحوار الذي عاش ويعيش طالما هناك حداثة وتقليد ، قافية ترضخ لبطش الفراهيدي ، وقفلة تنعتق في سماء حرية الحركة دون ضابط مسبق ، اعتمادها الايقاع العفوي الذي يتباين بين مقاطع ومفاصل القصيدة الحديثة !
ويقول الناقد بعد أن هدأت المناقشات . وبدأ بعضهم بإشعال سجائرهم والآخر ، يتلهى بلفها ، وحفنة تشرب ما طاب لها من الشراب !
الشعر شعر بأي لباس أتى ، فراهيديا أم حداثويا .. عندما تتراءى في القصيدة ــ الدّهشة ــ والصورة ــ والبعد الثالث ، وتتماهى الشفافية بين تلافيف اللفظة ، وتخلع الأشكال كوفية الفراهيدي ، ويصلع رأس ــ الحداثة ــ وتنضج نار القصيدة في ثلاثية هي الشكل + الصورة + الدهشة أو الإدهاش + ثقافة الشاعر ومخزونه التراثي والمعاصر وقتها تأتي القصيدة ، متوهجة حاملة عطاءها للمجتمع ــ أي النخبة المتابعة ــ وتتعالى الأصوات .
ينهض أحد المتذوقين للشعر قائلاً : أين نحن من هؤلاء ؟ ! .. قد ضعنا ما بين حديث وقديم ، ما بين رمز جميل وإبهام يتعافى ! ألستم يا أصدقاء الليلة الباردة ، أنّ القصيدة التي تعطيك حالها من القراءة أو السماع الأول فهي قصيدة عادية ــ مجانية ــ الشكل والموضوع ، أما القصيدة الجميلة التي تعطيك ممانعتها ولا تعطيك حالها إلا بعد جهد ومداورة وتعب ، هي القصيدة التي تهبك حياة جديدة ! وهذا يبقى رأيي أنا فقط !
ويقول آخر : المهرجانات الشعرية لا تصنع قصيدة ، بل تصنع شاعراً !
والامسيات احياناً قد تعطيك قصيدة وشاعراً ، أمّا هاجس النشر فهذا متروك للذين يشرفون على الصفحات الثقافية في صحفنا .. ومجلاتنا ، ولا مجال للخوض بهذا الشأن الآن !
شعراء كثر ، لكن القصائد قليلة ؟ !
وأين النقاد عن الشلليّات ــ والصداقات وال ؟ ! ينصفون هذا الواقع بأقلامهم التي لا تهادن أحداً ، وتعطي لكل ذي حق حقه في النقد ؟ ! .
خضر عكاري