كان فتحاً جديداً في الثّقافة العربيّة، وتنويراً للمجتمع، وتغييراً من سلوكيّاته البائدة وأعرافه الرّثة خاصّةً عرف ( الحريم) وإيحاءاته برجعيّة المرأة واستبداد الرّجل.
كان مجلس مي زيادة يعقد يوم الثّلاثاء وكان يحضره عمالقة الأدب وروّاد السّياسة ومشاهير العلماء وأعيان البلد كمحمّد عبده ومصطفى عبد الرّازق وأحمد لطفي السّيّد وقاسم أمين وطه حسين ومصطفى صادق الرّافعي وخليل مطران وعبّاس محمود العقّاد وغيرهم.. وهكذا اجتمع أعلام الدّين وأقطاب السّياسة وروّاد النّثر وفرسان الشّعر في صالون الآنسة مي، وهذا تقدير للمرأة العربيّة الّتي استطاعت جمع الرّجال من حولها يتناقشون فيما بينهم نقاشاً حرّاً في السّياسة والأدب والدّين والثّقافة العالميّة، وكان جمال مي الرّوحي والجسدي وكلامها الحلو ونبرتها الهادئة وثقافتها الكبيرة، كان كلّ ذلك يضفي على المجلس بهاءً و رقيّاً وإحساساً عالياً بالجمال في أعظم تجلّياته، ولم يكن أحدٌ يغيب عن المجلس إلّا لظرف قاهر حتّى غيّب الموت صاحبة الصّالون تاركةً وهج الذّكرى وبريق الماضي وأصالة الفكرة وروعة المغامرة والتّحدّي والخروج عن الرّتابة المملّة والمألوف المقرف.
لقد كانت مي تجلس ومن حولها أقطاب السّياسة وأعلام الأدب وكبار البلد تناقشهم وتدلي بآرائها الّتي بهرت الجميع.. وكان يوم الثّلاثاء من كلّ أسبوع عيد الأدباء والمفكّرين والعشّاق يتأنّقون ويتعطّرون ويمضون إلى المجلس بهمّةٍ ووجدٍ وهيامٍ عجيب وكلّهم يريد أن يكون فارس النّدوة ورائد المجلس لعلّه يحظى بقلب مي وحبّها فيجمع بين الثّقافة في أرقى نماذجها والجمال في أكمل صورة.
ويبقى لصالون مي زيادة حضوره على مرّ الزّمن في شعرنا الحديث فقد ذكره الشّعراء في أشعارهم والكتّاب في مقالاتهم، وكان الشّاعر اسماعيل صبري يقول في صالون مي في يوم الثّلاثاء:
روحي على بعض دور الحيّ حائمةٌ
كظامئ الطّير توّاقاً إلى الماءِ
إن لم أمتّع ب(مي) ناظريَّ غداً
لا كان صبحكَ يا يوم الثّلاثاءِ
أمّا الشّاعر شفيق معلوف فقد قال عن الآنسة ميّ:
بنتُ الجبال ربيبة الهرم
هيهات يجهل اسمها حيُّ
لم نلقَ سحراً سالَ من قلمٍ
إلّا هتفنا هذه ميُّ
وقد كان رحيلُ ميّ وانفضاض مجلسها وغياب نبرتها الموسيقيّة وملامحها الهادئة الرّشيقة وكلماتها العذبة المليئة بالأفكار الخلّاقة والمعاني البكر كان ذلك حدثاً مؤلماً لشاعر القطرين خليل مطران الّذي أقضته الذّكرى وأبكته حسرة الرّحيل ومرارة الفراق وغياب اللّحظات الجميلة وهو الشّاعر المرهف الحسّ، الرّقيق الكلمة، الرّحب الخيال، الصّادق القول، فقد قال في رحيل ميّ:
أقفرَ البيت أين ناديكِ يا ميُّ
إليه الوفود يختلفونا؟
صفوة المشرقين نبلاً وفضلاً
في ذراك الرحيب يعتمرونا
وما أوجع الحزن وما أشدّ الغصّة غصّة الرّحيل الّتي فعلت فعلها في نفس الشّاعر.
لقد كانت الآنسة ميّ بأدبها وبثقافتها وبجمالها رمزُ المرأة العربيّة الطّامحة إلى عصرٍ غير عصر (الحريم) وإلى شعرٍ لا يكتفي منها بوصف النّهود والأرداف والخدود بل يشيد بعبقريّتها وإنسانيّتها وعطائها وإنتاجها العلمي والأدبي قد ظهرت جماليّاته في صالون جمع خيرة الأدباء والمفكّرين في القرن العشرين لخمسةٍ وعشرين عاماً..
كنانة ونّوس