قــــريـــة الأشبـــاح

في ليلة البارحة أتى سلطان النوم ليسلب راحتي من بين أجفاني، زارني كابوس ليأخذني إلى رحلة لقرية ريفية، ربما بعيدة عن هذا الكوكب، أجد نفسي واقفة بين أشجار يابسة منزوعة الأوراق، و أرض مقسومة بالوحل و الطين الجاف،و سماء منسوجة بالضباب الأبيض الدخاني، وصوت زعقات تستعد للمطر، أتلفت إلى ما حولي، و شعري البني يتطاير بالهواء، مثل الحبال مع الريح.
أصرخ منادية بصوت منكوث: أين أنا؟… لماذا أنا هنا؟ و لا من ساكن يجيب. كان يوجد أحد عشر بيتا، جميع البيوت تلك لا موصد لنوافذها، حاولت أن أمد رأسي للتلصلص، فما رأيت إلا أنه و في كل بيت توجد أشياء مرعبة، دقات قلبي تسارعت بشدة، روحي انتفضت مودعة لجسدي. بيت بداخله أكوام جثث ميتة مصلوبة، و بيت آخر فيه أشخاص أصابعهم اليمنى منزوعة، و بيت يحتوي مشنوقا جاحظ العينين، و عشيقان مقتولان على الفراش و الدم جرير منهما، أما جميع الحمامات فكانت جدرانها مخططة بأحرف لاتينية غير مفهومة، حاولت تفسيرها لكنني عجزت، المرآة أطرافها مكسورة، أدوات الاستحمام ملطخة بالدماء، هممت بالهروب، أغمضت عيني من ذاك المشهد، مشيت بخطوات بليدة و عصابة رأسي كادت تنفجر، حاولت حل اللغز، الذي يقضي بسؤالي: كيف جاءت قدمي بي إلى هنا؟؟
يزداد الظلام، و لا زلت جالسة منكوبة الرأس أفكر بالفرار، أتاني صوت خربشات قطط، كنت معتادة على سماعها لكن هذه المرة مختلفة..أقنعت نفسي بأنها مجرد هلوسات ليلية، و من شدة خوفي أتوهم إلى أن يحل الصباح الباكر و سأخرج من هنا حتما، عيناي تتصارعان للنوم، و عقلي ما زال مستيقظا، أصبحت أعبث بأي شيء، وقعت يدي على أحجار صغيرة رميتها بتوتر إلى وحل طيني، فتحرك شيء بين موضع قدمي، أنزلت رأسي إلى أسفل الأرض، فصادفتني عظام بشر متعفنة مدفونة منذ أعوام، أحدق بذهول و عقلي يرفض النظر، كانت تمر الثانية وكأنها سنين من العذاب، صوت بكاء أطفال يأتي من البيت الخامس على بعد عشرة أقدام من هنا، رغم كرهي لصوت الأطفال راودني فضول لأبحث عن مصدر الصوت، علني أكتشف سر البلدة العجيبة، ظلان يتبعانني، وقفت..، و سألت نفسي: هل ممكن أن يملك المرء ظلين؟ لا تكوني حمقاء حد الغباء إنها مجرد هلوسات حاولت أن أتمتم مع نفسي على ذلك النحو لنزع الخوف من داخلي و أدعي أنني قوية، ثم تابعت: عندما أعود إلى منزلي لن أخبر أحدا عما حدث من المؤكد لن يصدقونني، سيضحكون على سخافتي، و من المعتاد سأسمع قولهم: خيالك واسع.
وصلت إلى ذلك المنزل، حيث اختفى الصراخ، هل كانت مجرد هلوسات حقا؟ صعدت لدخول المنزل، أخطو بقصد الاكتشاف، هناك غرفة غير محكمة القفل، فتحت بابها بسهولة فشاهدت فتاة بشعر ذهبي، و صوت عذب كانت تغني مثل المغنيات المشهورات، كان غناؤها و جمالها لا يوصفان، جالسة على كرسي حديدي، و الرياح تسدل الستائر السوداء المتموضعة على الجدران، و كان هناك غرفة فارغة الأثاث، متموضع على جدرانها هي الأخرى رسوم بالدماء للعبة قديمة معروفة ب (X) و (O)…و وجوه لرؤوس غريبة الشكل، أما عن الفتاة فكانت لا تزال مستغرقة في غنائها بصوتها العالي، رافعة رأسها بشموخ و شعرها الأشقر يغطي أطراف الكرسي، تغني و تغني دون أن تنظر أو تلتفت، كانت قدماي ترتجفان من شدة الخوف، و أطرافي قد تبللت بشيء ما، المهم.. واصلت المشي بحثا عن حل، صعدت السلم..، كانت الإنارة تنطفئ و تشتعل، و كأن زلزالاً صب عليها، سارعت بصعودي على السلم من كثرة خوفي، فوقعت و علق شيء بزر قميصي، تدحرجت بسرعة غريبة، فهويت داخل سرداب مهجور مليئ بالكتب و الغبار معشعش فيها، و العناكب تعانق أطراف المكان، رائحة كريهة، ذنبان فأريان يتشاجران، تحايلت بأخذ أول كتاب وقع بين يدي، كان يحكي عن مدينة مشهورة لصناعة الدمى بأرواح البشر، كان صاحبها يقتل أو يصلب لينزع الأعضاء الخاصة بكل جسد ليصنع منها لعبته الماكرة، بعد مدة من الزمن، قلت نسبة تكاثر أهل القرية إلى أن خلت تماما، فبعضهم فروا هربا و آخرون قتلوا، و جاء يوم كان يجب عليه فيه أن يصنع لعبة جديدة، تكسبه المال أضعافا مضاعفة، كان مثل الجزارين يحد سكينه ليبدأ بالرمي و القطع، جاءه صوت من خارج السور الملعون، ذهب ليرى ماذا يحدث، ظن أن قطته تعبث بأدوادته كالعادة، تمايلت قدمه اليسرى، و يداه مرفوعتان، و قع رأسه على منصة حادة فانبتر جسده، كان من المؤكد أن موته و عقابه آتيان، أما عن الدمى فأصبحت أرواحا شريرة تقتل كل من تخطو قدمه على أرض القرية، و أما الفتاة ذات الصوت العذب فلا أحد يعرف ما قصتها، و لكن الكتاب يقول أنه في يوم ستفرج على تلك البلدة . دون ذكر الأسباب أقفلت الكتاب و جسدي يرتجف خوفا، و كأنني محكومة بالإعدام، مر الليل ببطء شديد، خرجت إلى الحديقة أبحث عن مفر، فما شعرت إلا بذراع خشنة تحط على كتفي، أتلفت بخوف و لكن لا أحد يقطع شكوكي، ثم تكررت تلك المحاولة عدة مرات، إلى أن زهر اليقين بهيئة كائن غريب الشكل، قلت بصراخ حاد: من أنت؟! ومن أتى بي إلى هنا و أخرجني من منزلي؟! حاول إخافتي بالنيران الملتهبة المشتعلة بين يديه، ثم أجاب: أنا من جاء بك إلى هنا، ظهرت لك بالحلم، و اتيت بك إلى عالمي القز، و إن رفضت فببساطة سأقتلك، فقلت: لن أتعجب ما دمت ساحرا. و ضع راحتيه على طرفي جسدي و قال بنشوة السافك: إنني أتلذذ بقتل النساء و صلبهن..
خشيت أن تكون نهايتي على يد ساحر مثل هذا، سألته بريبة: لقد علمت أن صانع الموتى قد مات، فمن أنت إذا؟ فرد بلهجة متقطعة متعجرفة: أنا وريثه أملك الأرواح و أقتل من أشاء. استغليت فترة تباهيه بنفسه، و تمايله بيديه بحركات المغرور، جعلتني أتفلت منه، فركضت مسرعة إلى سيارة اقتحمت الطريق فجأة، لكنني للحظة شعرت أن شيئا ما يخنقني، و أن الموت اقترب مني، و دون سابق إنذار، غبت عن الوعي…
استيقظت على صوت خافت، يهمس لأمي بتعاطف: آسف على هذا الخبر، لكنها تعاني من اضطرابات نفسية، يجب عليكم أن تأخذوا الحذر، فمن الوارد أن تتفاقم الحالة أكثر.
رغد الجاجة

 

المزيد...
آخر الأخبار