يعد الهايكو واحداً من أهم أشكال كتابة في الشعر الياباني.وربما اختلط على البعض مصطلحات Haiku, Hokku , Haikai فـ(هوكو) حرفياً تعني مستهل القصيدة و بدايتها,أما إذا كان المستهل أطول يسمى حينها بال (هايكا)و يتكون من خمسة أو سبعة مقاطع في ثلاثة أسطر تشكل قصيدة قصيرة تمثل لحظة التنوير التي تسمى «ساتوري»لدى اليابانيين . و الفرق أن الهوكو يؤسس لنغمة باقي القصيدة كما ومن الممكن للشاعر أن يكتب (هوكو) فقط دون إكمال القصيدة، ويرجع تأريخ الهايكو الحديث الى عام 1892م بظهور قصائد الشاعر(سيكو شايكي ) وقد بدأ القارئ العربي ، والمثقف بخاصة ، بالتعرف على أنماط الشعر الياباني وتقاليده الموروثة منذ وقت قريب لا يتجاوز العقدين تقريباً.
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى المناخ الروحي الذي تنبع منه ثقافة أهم شعراء الهايكو الكلاسيكيين ومعظمهم من الرهبان، أما موضوعاتها فإن أشهر قصائد الهايكو تحكي عن تفاصيل و حالات يومية لكن من زاوية جديدة تجعل الحالة المألوفة جديدة تماما على المتلقي. تتكون قصيدة الهايكو من جزأين , ويكون بينهما حيز خيالي يترك للمتلقي فرصة الولوج للقصيدة .
كما ويبدو استقلال المقطعين الى حد ما عن بعضهما من ناحية الشكل و أن يكونا متصلين من حيث المعنى بحيث يغذي كل واحد فهم الآخر. ولعمل هكذا قطع باللغة العربية علينا أن ننهي أحد المقطعين بنقطتي تنصيص( : ) أو بشرطة(-). من الشروط الواجب توافرها في قصيدة الهايكو وجوب احتوائها على( kigo ) وهو كلمة فصلية توضح في أي الفصول كتب الشاعر الهايكو . على سبيل المثال (الأزهار) أو (الكرز) تذكر للدلالة على الربيع, (الجليد) للدلالة على الشتاء أو (البعوض) للدلالة على الصيف. لكن الكلمة الفصلية لا تكون مباشرة.
وكذلك يجب على شاعر الهايكو تجنب التشخيص أو أنسنة الأشياء .فالإنسان ليس مركزاً للأشياء بل هو خيط في شبكة كلية ،حاله حال بقية الموجودات من تراب ونبات وحيوان ونجوم وسديم مثال ذلك :
*ضفدعة خضراء-
أجسدك أيضاً
جديد الطلاء؟
*لا أحد يسافر
هكذا طريق-
سواي في هذا الخريف
*أحبت زرقة الياقوت
كم كان وحيدا
هذا ألليلك ! ولو تحولنا الى ما كتب المبدع (علي العبودي) لو جدنا إمكانية وضعه تحت هذا النوع من البوح فهو يقول في:
*طفلة
هو وطفلته يتحاوران اللعب –
بمرح بريء ودون شوائب
فجأة –
انفجار .
فهذا المقطع يتكون من أحد عشر كلمة موزعة على ثلاثة مقاطع تفصل بينهما شرطة، المقطع الأول (هو وطفلته يتحاوران اللعب) المقطع الثاني (بمرح بريء ودون شوائب) المقطع الثالث( فجأة انفجار) وأنا أرى في تركيب ( دون شوائب) تحقيق لوجود kigo وفيها إحالة الى صفاء الجو ومن ثمة يمكن أن نقول إن هذه الهايكو قد وقعت في الصيف، وأن علي العبودي قد عمد إلى الفصل بين المقطعين بوضعه شرطة بينهما في الكتابة حتى ليتبادر الى ذهن المتلقي إمكانية الفصل الكتابي بينهما .
ولكن وحدة المعنى تتطلب من القارئ دمجهما معا للوصول الى المعنى، وان لحظة التنوير وجدت من خلال كلمة انفجار .
وبحدوث ذلك الانفجار تحقق تشظي الإنسان وتماهيه مع مكونات الطبيعة الأخرى .
أما قصيدة قبلة فقد قسمها الى قسمين أيضا، احتوى القسم الأول منها على ستة كلمات فصلت بينهما نقطتين شارحة بينما ضم القسم الثاني خمس كلمات فهوكي يقبل حبيبته الموجودة في شرفة عالية كان لابد من حل وقد أعطانا علي ذلك الحل بزراعة شجرة ولعلها تكبر فيتسلقها الى شرفة المعشوقة ويحدث اللقاء فهو يقول :
• قبلة أراد الوصول الى شرفتها كي يقبلها : زرع شجرة لعلها تكبر ويصل . المقطعان ينفصل احدهما عن الآخر كتابياً ويلتقيان ليكتمل المعنى .هذه قصائد بحاجة إلى مدخل ، ليس لأنها غامضة ، بل لأن وضوحها الشديد يجعلها كذلك لسببين : الأول ، أنها لا تعلق لها بأنماط الشعر العربي ، التقليدي منها والمحدث ، الموزون والمنثور . والثاني لأنها تحمل رؤيا مختلفة إلى العالم غير ملموسة في الثقافة العربية.
سبب الاختلاف منبعه الشرقي لا الغربي . والذين اعتادوا على المنبع العربي التقليدي أو المنبع الغربي التقليدي الذي طبع بطوابعه الشعر العربي الحديث ، سيجدون في هذه القصائد ما لا يفهمون .
فهي تتجنب الأساسيات العزيزة للجمال الشعري المألوف : التشبيه والمجاز وتجريد الملموس وتجسيد المجرد ، وتتمسك بتسمية الموضوع (موضوع الخبرة) مباشرة . وهي تتجنب التشخيص أو أنسنة الأشياء . فالإنسان ليس مركزا بل هو خيط في شبكة كلية ، وكذلك بقية الموجودات من تراب ونبات وحيوان ونجوم وسديم . يتأتى هذا التجنب من حاجة الفنان ، والشاعر فنان ، إلى الإدراك في حدوده القصوى ، وإلى أن يجسد تجربته الفريدة هذه في شكل ملموس ؛ التجربة وحدها . لا شيء يشبه شيئا في لحظة ادراك قصوى .
يمكن القول أن الأسلوب هو تشذيب الأداة إلى أدنى حد ممكن بحيث لايقف إلا الأقل من الكلمات والشروح بين القارئ والتجربة .
والنتيجة هي قصيدة عارية لا يتدخل فيها شيء بين الشاعر وموضوعه . المجاز تدخل والتشبيه احتيال . الغاية هي التجسيد بحيث يظهر موضوع الخبرة بذاته الفذة من دون حاجة إلى إشارة إلى شيء آخر غير ذاته . وحيث يستعصي التعبير أمام الخبرة التي لاسابق لها ، وهو عصي بالطبيعة في مثل هذا الموقف الصوفي (ذروة الموقف الفني من الوجود) ، يلجأ النظامون إلى المجاز والتشبيه وكل القوالب المتداولة هذا النمط الشعري تعرفه الثقافة اليابانية تحت عنوان «قصيدة الهايكو» ، وله في تلك الثقافة شروطه وانتصاراته وهزائمه ، وله امتداد لا يعرفه الكثيرون عندنا في اللغات الإسبانية والهنغارية والإنجليزية والألمانية ولغات أخرى .
ولكن ما هو مأخوذ هنا في هذه المجموعة هو جوهر فكرة الهايكو: اللحظة الجمالية ، أي لحظة الاستنارة التي تأتي بعد الاضطراب والتمزق وانقسام الوجود إلى ذات وموضوع (بدهيات الفكر اليوناني الذي يلقي ظله منذ أكثر من ألف عام على الفكر الإنساني) . اللحظة التي يشرق فيها نور اكتشاف الإنسان لكينونته العميقة في هذا الكون .
الهايكو اليابانية شكل من أشكال هذه اللحظة الجمالية . شكل دال على فلسفة رؤيا معينة يندرج في سبعة عشر مقطعا تتوزع على ثلاثة سطور : خمسة مقاطع ، سبعة مقاطع ، خمسة مقاطع . ومدة ترتيلها لا تتجاوز مدّة النفس الواحد . ولكن لاضرورة تتطلب ابتكار نمط مواز لهذا الشكل الياباني في العربية . فوحدة الوزن العربية هي التفعيلة لا المقطع .
كما أن إعطاء اللحظة الجمالية طابعا مميزا يعاكس تنميط الأشكال وينسجم مع جعل الشكل مفتوحا ، مع الحفاظ على شكل أقصر يجسد لحظة الحدس المباشر . هنا في هذه القصائد يمكن الإحساس بنوعين من الايقاع : الايقاع الخارجي المعتاد في الشعر العربي (المتحرك والساكن) ، والايقاع الداخلي المعتمد على تدفق الصور ، والذي يتبع نظام الجملة الموسيقية الحرة . في الايقاع الخارجي ابتعاد عن نمط شعر التفعيلة ، ومزج تفاعيل من بحور مختلفة في الهايكو الواحدة .
قد يبدا السطر ، وليس البيت ، بتفعيلة الرجز ، تتلوها تفعيلة الرمل ، ثم يبدأ سطر بتفعيلة الخبب … وهكذا . المعيار هنا هو الإحساس بالتدفق الداخلي . مثلا قد تبدأ القصيدة بايقاع بطيء تقوده تفعيلة الكامل ، وقد تنتهي بتفعيلة الخبب للإيحاء بالتسارع .
صحيح أن المزج كان أسلوبا اتبعه بعض النظامين في الثلاثينات ، إلا أنه كان مزجا محكوما بالموت لأنه اعتمد مزج البحور لا التفاعيل ولا دقائق الأوتاد والأسباب . فكان مزجا خارجيا بين قوالب لا مزجا داخليا بين عناصر . مزج العناصر هو كيمياء اللغة لا مزج القوالب . وهذا هو ما يميز القصيدة القصيرة الحرة هنا حين تعتمد مزج العناصر . إنه أكثر جدة ، فهو يخرج على نظام الشطرين ونظام التفعيلة المكرورة رغم عللها وزحافاتها . هناك أمر آخر تلتفت إليه الهايكو هنا ، وهو إعطاء أهمية لجرس الألفاظ وحركات الإعراب والميزان الصرفي ، فلكل هذه الجوانب دلالات شعورية في لغتنا العربية ، ويمكن أن نجد اعتناءً بها في الموروث البلاغي أهملته قطعان النقاد والشعراء المحدثين رعونة أو جهلا ، وتمسكت به ذائقة البسطاء من الناس . وربما يفسر هذا الاهمال الحنين الذي لاينضب إلى الشعر التقليدي في أوساط عامة الناس : إنهم يفتقدون في الشعر الحديث ليس المألوف فقط بل وما هو جوهري في اللغة بوصفها فنا ممتعا لا مجرد كلمات ومعان في سطور . المنبع الثاني لهذه القصائد يأتي من مفاهيم المدرسة الألسنية في النقد المعاصر وتنوعاتها ، وبخاصة في تشديدها على العلاقة الاعتباطية بين الكلمة والموضوع ، والتمييز بين اللسان والكلام أي بين قواعد اللغة وبين اللغة في الأداء . ويأتي أيضا من فكرة ما بعد – حداثية ، إن الفكر ليس مرآة الطبيعة (ريتشارد رورتي) . ما يعنيه كل هذا أن العلاقة ملتبسة وغامضة جوهرا لا عرضا ، وأن الوجود الحق أو الكينونة العميقة بتعبير «هيدغر» منطقة بين الحضور والغياب ، ما بين الخيط الأسود والأبيض . هي الوجود عاريا من الأسماء كما تنظر إليه عين طفل أو فنان في ليل الوجود قبل أن تتخذ الأشياء أسماء . لا حد للرؤيا ولا صيغة نهائية ، بل ابتكار متواصل للحضور ، لا تفسير ولا تحليل في الفن ، بل إشارة إلى ما ينبثق انبثاقا ، وحيث للصمت ثقل الكلام ذاته. يسمون هذا المابين أحياناً فراغاً أو خواء حيا أو فضاء أو صمتا بليغا مأهولا بالمعنى ولا معنى ومأهولا بالصوت ولا صوت ، كأن الشاعر رسام الفراغ ذاته ، أو صانع فخار علينا أن ندرك أن آنيته التي يصنع هي الفراغ بين جدرانها . الكلمات ليست كل شيء في القصيدة : هي كتلة الطين وما تحتويه من فراغ هو القصيدة . وأخيرا ، يأتي منبع هذه القصائد الثالث من اللغة البصرية ، لغة العين واللمس والسماع أو الحواس كلها ، لغة الحضور لا كما انعكس في لغة الذاهبين والحاضرين بل وكما سينعكس في لغة القادمين : لغة مفتوحة بلا يقين . يأتي الشاعر الوجود مواربة بلا يقينيات (اليقين هو اللحظة التي يتحجر فيها كل شيء) ويحوله إلى احتمال وجود ، أي أغنية . ومن الأفضل ألا يستعير السؤال الأبله عما تعنيه الأغنية ، لأنها تحضر بكل بساطة مثلما يحضر طيران الطير والموج ويمر النسيم (ويتمان). هذا هو الموقف الذي يسمونه الاستنارة . ليس الحكمة بالطبع ، بل جذرها الحي حين يندمج المشاهد بموضوع المشاهدة بلا غاية سوى الاندماج ذاته . لا تعليق هنا ولا تفسير حين يثيرنا الجميل ، إننا نرسمه فقط . هل يمكن صب طوفان من المشاعر في مساحة بوصة على الورق ؟ هل يمكن أسر السماء والأرض في قفص الشكل؟ كان هذا سؤال الصيني «لوتشي» ومازال سؤال الشاعر .
ومن الجدير إضافة..
* التاريخ
إن الـ»هايكو» ينحدر من نوع آخر من الشعر القديم (القرن الـ8 م) الـ»رنغا»، وهو أكثر رونقا وإرهافا من الأول. انتشر في البداية بين الأوساط المثقفة، وكانت أصول هذا الفن تعود إلى مباراة شعرية يقوم فيها شخص ما بإلقاء البيت الأول (أو «هوكو»)، ويتشكل من سبعة عشر مقطعا صوتيا (5-7-5)، على أن يقوم الباقون بتكملته ببيت ثان وهكذا. منذ القرن الـ17 م وحتى الـ18 م، طور أصحابه ألفاظ ومعان جديدة. أصبح فنا حقيقيا متميزا يضفي جوا من الظرافة على مجالس أهل الأدب («هائيكائي نو «رنغا» أو (شعر الترفيه)، ثم انتشر بين أوساط طبقات المجتمع. منذ انتشاره بين عامة الشعب، بدأ يفقد قيمته الشعرية، ثم أسقطت الأبيات الثانوية، واختصر إلى بيت واحد أساسي (هائيكائي نو هوكو). وكلمة «هايكو» أو «هائيكو» هي اختصار لـ»هائيكائي نو هوكو».
* الأعلام : ازدهر الـ»هايكو» في مرحلته الأولى في القرن الـ17 م، بفضل «باشو»، المعلم الأول لهذا الفن بلا منازع. يشكل كل من الشاعر والرسام «بوسون» (1716-1783 م)، «ماسا-أوكا شيكي» (1867-1902 م) و»ناتسومي سوسيكي» أعمدة هذه الفن. لازال تعاطي هذا الشعر شائعا في أيامنا هذه، ويحتل مكانة متميزة في الأدب الياباني. كان الـ»هايكو» سببا في ظهور «الصورية» وهي حركة شعرية أنجلو-أمريكية راجت في أوائل القرن العشرين (الـ20 م)، كما أثر في العديد من الأعمال الأدبية الغربية الأخرى.