يقرع الجرس في باحة المدرسة..
يتوثّب القلب الصغير..
تتسارع خفقاته في الصدر..
هذا يوم جديد..
مشاهد متجددة.. و.. ألعاب و.. دروس.. وأشياء مبهمة..
أفكار متولّدة.. ورؤى متطايرة.. وأجنحة محلّقة.. والسماء بلا حدود.. والفضاء الرحب تلوّنه أحلام وأمانٍ وابتهالات.. ياربّ امنحنا القوة.. مازلنا.. القطا.. ندرج في الأيام الأولى.. عيوننا تبحث عن مرافئ وشطآن.. ياربّ كن معنا.
و.. هذه المدرسة الفسيحة يحكمها نظام، ويهيمن عليها معلّمون.
ونحن لم نزل مستجدين (!)
خرجنا من حارتنا –البارحة- حارة النحاسين.
لاروضة أطفال مررنا بها.
ولاصفوف تمهيدية عرّجنا عليها..
هذه أول مرة تضمنا إليها المدرسة!
***
و.. الحلم يحفز الحلم.. والذكرى تؤجج الذكرى..
و.. الطفل الصغير لم يبتعد عن حارته إلا أياماً قليلة.
***
سمعت أمه أن (الشيخة أم ناصر) تحفظ القرآن الكريم!! وسمعت أيضاً أنها تجمع الأولاد الصغار تعلّمهم ماتحفظ، أو تلقنهم قصار السور!!
-( قل هو الله أحد) (قل أعوذ بربّ الفلق) (قل أعوذ بربّ الناس) (تبّت يدا أبي لهب) (إذ جاء نصر الله).
فألحقت إخوته مع أولاد الحارة بمدرستها البيتية (!!)
***
بيت الشيخة (أم ناصر) خلف جامع الأحدب، بيت ينزل إليه بدرجات.. والأولاد يتجمعون منذ الصباح، الصبيان والبنات يحملون (جزء عمّ) وينطلقون.. الأجزاء الكريمة في أكياس قماشية/ مقعلة في رقابهم. أو مشدودة تحت آباطهم، والشيخ (أم ناصر) امرأة صالحة، تأسر الأطفال بصوتها الحنون القوي، والويل لمن يخترق قانونها الخاص.
كانت الشيخة تتصدر الغرفة الجوانية، عيناها ترصدان الباب.
ترصدان الشباك المطلّ على فسحة الدار الصغيرة، ترصدان حركات الأطفال.
ترصدان الأكف المنمنمة التي تمتد بوجل!! أكف ناعمة تقلب صفحات (جزء عمّ) أصابع دقيقة رقيقة تسير مع السطور والحروف.
ورؤوس تهتزّ إلى الأمام والخلف. وأعين تحدّق في الأوراق المتراقصة.
هل كان الأطفال يقرؤون فعلاً؟
***
عصا طويلة رفيعة تمتد على غير انتظار.. عصا الشيخة (أم ناصر) لها فحيح كأفعى خفية، ربما تصفّر فوق رؤوس الأولاد، ربما تطير إلى أبعد مدى.. تصل إلى آخر الأولاد في (الكُتّاب)!! والعصا تبرز من عتمة المكان، لا أحد يدري كيف تظهر؟ ولا أحد يعرف أيضاً كيف تختفي؟ هل تهبط من فوق؟ أم تنبثق من الحائط؟ هل ستلسع برشاقة أم ستضرب بحقد خفي!! عصا تخطف أبصار الصغار.
تجعلهم يتوجسون خيفة، تجعلهم يقظين دائماً، وهم مفتوحو العيون مستنفروا الحواس، مشدودوا الأنظار.. والعصا لها صولات وجولات.
لها طلات وغيبات(!!!) ولكن! حل حفظ الأولاد قصار السور؟!
كانوا يرددون الكلمات
تنوس رؤوسهم مع الآيات القصار
تتابع أصابعهم الدقيقة منحنيات الضوء فوق الأحرف المتراقصة. كانوا يحفظون عن ظهر قلب!!!
كانوا يستظهرون.. يرتلون.. تتمايل رؤوسهم مع ماينطقون به.
وهم يرتّلون السور الكريمة.. وألوية السكينة والوقار ترين فوقهم!! والعصا قد استراحت من مهمتها!!!
أي فضاء مثير شغلته الشيخة (أم ناصر) في ذلك الحين؟!
أية أضواء منيرة سحبتها فوق عالم الأطفال؟!
أية سموات عالية احتضنت تلك التراتيل.. تلك الأحلام.. والأطفال يحلّقون بعيداً بعيداً في فضاء الحروف المبهمة والكلمات السحرية البعيدة القريبة.
***
تلك الأيام.. التي غادر فيها القلب الصغير لم تكن كسائر الأيام تلك الأيام هربت من الذاكرة، ركضت في سهول الوجود.
تلك الأيام كانت باذخة الثراء بالتفاصيل.. كانت شديدة الحضور.. لها توهج الفرح.. لها أبهى المواقف، وأجمل اللحظات، بل أطولها.
برشاقتها وخفتها ونعومتها.. لكنها ليست كأيام المدرسة.. الحقيقية… أيام الشيخة (أم ناصر) وكتّابها لها مفرداتها الكثيرة.
أيام تستأهل أن تستعاد.. والذاكرة المتوقدة تشتعل بالحب.
أمام التفاصيل، تبث إرسالها بعذوبة وشفافية.. دائماً.. دائماً
***
الأحلام تصحو على غفلة من الواقع.
والواقع يغفو على صحوة الفكر.. والأيام لها إيقاعها المميز.. والزمن يمضي.. ويمضي.. ولاشيء سوى التذكار.. لاشيء سوى الوقوف أحياناً أمام بهاء الصورة، وسحر الأشياء والأمكنة.
نزار نجار