إنني عندما أكتب عن الأستاذ الدكتور مأمون شقفة رحمه الله ! فأنا التلميذ يكتب عن أستاذه . نعم لقد كان أستاذاً لنا في سبعينيات القرن الفائت في كلية الطب بجامعة دمشق في قسم أمراض النساء وجراحتها ، وكان قدوة لنا في عمله وأخلاقه . كان يقول لنا : ( الأخلاق قبل العلم ) وإن اكتساب العلم أيسر من التخلق بالأخلاق الفاضلة ، ولربما عنّف طالباً إذا بدت منه بادرة تنم عن استهانته بمريض وكان يقول لنا ( المريض ملك وتاج فوق رؤوسنا يعلمنا بجسمه ومرضه ما نحتاج إلى تعلّمه ) .
ولد الدكتور مأمون في حماة عام /1936/ وتوفي عام /2012/ ــ انتسب إلى المدرسة المحمدية الشرعية ثم انتقل إلى ثانوية ( ابن رشد ) وكان الأول دائماً على أقرانه وبدأ ينظم الشعر في هذه السن ولم يكن راضياً عن أشعاره الأولى واعتبرها قرزمات ليس إلاّ , ومنها ديوان ( نفحات رمضانية ) ثم انتسب إلى جامعة دمشق وكان متفوقاً فأرسلته وزارة التعليم العالي إلى بريطانيا ليكمل دراسته وكان من المفروض أن يظل هناك أربع سنوات ولكنه حصّل الاختصاص بسنتين ونصف السنة . أما شعره ، وهو مجال مقالتنا ، هذه فقد كان شاعراً مجيداً هاوياً لا محترفاً ، جميل المعاني ، اصيل السبل والديباجة ولربما أسميه ( شاعر المفارقات ) لأنه يلتقط الواقعة فيبني منها مفارقة مضحكة لكنها هادفة وأكثرها من واقع عمله كطبيب .
من مفارقاته الجميلة أنه يصف صديقاً له جاء بامرأته ليعالجها عنده من نزف رحمّي ألمّ بها فيبدأ الصديق بأسئلة شخصية لا تنتهي ليس لها علاقة بموضوع الطب الذي جاء من أجله فيسأل الدكتور مأمون عن أبيه وأمه وإخوته وأخواله بل وحماته واكتسح وقته الثمين بثرثرة لا طائل منها يقول الدكتور :
قال لي عمت صباحاً
قلت أهلاً يامبجّل
أجلس الأخت على الكرسي هذا وتفضل …
قال لي : كيف أبوك ؟ لم أزره منذ عام أو يزرني
قلت : مات .. مات من عشرين عاماً
بعدما ظلّ مريضاً ربع قرن أو يزيد
قال : لهْ .. لهْ .. لهْ لقد أحزنتني
كان من خُلّصِ أصحابي وأغلاهم عليّ
يرحم الله أباك
إنما قل لي يامأمون عن أمك .. عن صحتها
قلت : ماتت قبله .. ماذا دهاك ؟
فتشاكى وتباكى ..
قال : سلّم لي على عمك ( أحمد )
تاجر الخردة في ( سوق الطويلْ )
قلت : عمي لم يكن ( أحمد ) بل عمي رشيد
قاضياً كان وعدلاً لا يحيد
وإذا استفسرت عن خالي فقد مات هو الآخر
عن سبعين عاماً
عاشها في البّر والتقوى وفي حرب اليهود
سيدي هل تدخل الموضوع قد فتّقت لي كل جروحي
قال في كل برودْ
سيدي ماذا تريد ؟
زوجتي أم عيالي
نزفت كالنهر يجري من ليالٍ وليالِ
وحماتي من صديقات حماتكْ
إقرها مني السلام ْ
قلت : ماتت منذ عام
ثم بادرت أنا بالأسئلة
تتوالى كالرياح المرسلةْ
وبدأت الفحص والتصوير والتقرير همي أن أحل المسالة
علني استأصل الليف الذي في بطنها
قبل أن تستأصل الأشواق كل العائلة ..!!
مفارقة أخرى : امرأة لعوب تدخل العيادة وهي متزينة بأبهى زينة تحاول مغازلة الطبيب مأمون وهو الوقور الذي امتلأ تقى وطهارة فينسج من هذه المفارقة قصيدة مضحكة لكنها هادفة
عيناك قد رنتا إليّ …. بنظرة فيها غزلْ
وتكحل اللحظ الذي …. من دونما كحل قتلْ
وعلى ثيابك رونق …. من كل لون منفصلْ
وكأنها قد صممت …. لتقول لي ما لم يُقلْ
وتكسّمتْ فبدا عليها …. كل ليف من عضلْ
وعجبت من كعبي حذائك …. هل هما برجا ( ايفلْ)
نقرا على أرض العيادة قطعة لم تكتملْ
شرفتني بتبرج كم يستحي الخجل ْ !
أخرجتها أكذوبة وأسأت في سبل الجملْ
وكأنما تبغين في روحي بصيصاً من أمل
أوما علمت بأنني متزوج لا أنفعلْ
وبأنني أحيا سواد العمر في شهر العسلْ
وبأنني في الطب لا أرضى التصابي في العملْ
وبأنني لا أشتريك ببصلةٍ … عفو البصلْ !
في عام /2009/ كرمت حماة ابنها البار الدكتور مأمون شقفة في المركز الثقافي العربي وحضر الحفلة أصدقاؤه ومحبوه وزملاؤه .
ألقى قصيدة في ذلك الحفل يتضح منها تواضعه وأخلاقه الحميدة والعرفان بالجميل . يقول :
يكرمني الكرام ولست أدري …. على ماذا يكرّمني الكرام
عجوز يستحق الدفن حيّا …. ولكن دفنه حيّاً حرام
وكل تقاعد وأْدٌ خفيٌّ …. ولكن الحياة لها نظام
أنا روحي الدروس ودون علمٍ … وتعليم فأيامي ظلام
وإذا حاضرت غاب ( الرّبو) عني … وعاد لنبض قلبي الانتظام
وزال إذا بدا مني عبوسٌ …. وأشرق في عيوني الابتسام
أشيخ وأستمر على دروسي … وصوتي خافت والربع ناموا
وأنتم أيهذا الحفل هذا …. فؤداي والفؤاد به غرام
أقدمه لكم ولكن يسعى … ويقطر منه هذا الاحترام
فشكراً .. ألف شكر من ضلوعي .. إلى من نظموا ولمن أقاموا ! !
وأخيراً للدكتور مأمون قصيدة رائعة يصور فيها طبيباً يمارس عملية إسقاط جنائي يحاسب عليها القانون وقد حدث لتلك المريضة المسكينة مضاعفات خطيرة فقد ثقب هذا الطبيب رحمها وامتد الثقب إلى الأمعاء ولولا أنها أسعفت إلى مشفى التوليد والنساء بجامعة دمشق لكانت اليوم في غياهب القبور . وكنت أحتفظ بتلك القصيدة وقد ضاعت مع الكثير من شعري وكتبي ومنها هذا البيت :
لم يزل يعمل الملاقط حتى …. فاح من بين شاربيه ( الدماءُ )
وقد وضع الدكتور في الأصل كلمة قاسية بدل الدماء لا أستطيع ذكرها هنا .
رحم الله الأستاذ الدكتور مأمون شقفة فلقد مات بعد تكريمه بثلاث سنوات مغترباً في الإمارات العربية المتحدة ولم يترك ــ حسب علمي ــ ديوان شعر مجموع ، وبقي كتابه العلمي ( القرار المكين ) بين أيدينا دالاً على غزارة علمه وسعة ثقافته .
د. محمد الجمّال