-1-قام أديب عربي كبير بإحراق مؤلفاته الكثيرة، على الرغم من قيمتها الأدبية والفكرية والثقافية الكبيرة.
تنوعتِ المواقفُ في تفسيرها دوافعَه إلى ما فعل، هو الذي أمضى عمرا طويلا في كتابة تلك المؤلفات، متنقّلا بها بين مجالس وزراء عصره ومثقفيه، تجده في لحظة غضب، يضرم النار بين سطور ما كتب من كنوز الفكر والأدب!
-2-
غريبٌ أمر هذا الكاتب، الذي عدّه الدارسون واحدا من أهم كتاب النثر في تاريخ الأدب العربي، أبو حيان التوحيدي (310-400 هـ)، (922- 1010م)، صاحب كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، الذي يعدّ «مازة» المؤانسات في كل زمان أو أوان.
-3-
كما تنوعتِ المواقف في تفسيرها دوافعَه إلى إحراق مؤلفاته، تنوعتْ في تحديد شخصية الوزير الذي روى له التوحيدي في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، مسامراته وحكاياته في أربعين ليلة، بأسلوب يذكر بأسلوب رواية شهرزاد حكاياتها للملك شهريار في «ألف ليلة وليلة
-4-
طال الخلاف، على مدارج الأمكنة والأزمنة، حول تحديد شخصية هذا الوزير، الذي لم يذكر التوحيدي عنه سوى صفات عارضة، وضّحها أحمد أمين، برؤية تحليلية عميقة، في مقدمته لهذا الكتاب الذي صدر، في العصر الحديث بطبعات متلاحقة، في ثلاثة أجزاء.
-5-
رأى أحمد أمين أن التوحيدي ألقى موضوعاته مسامراتٍ للوزير «أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن سعدان»، «وابن سعدان هذا استوزره صمصام الدولة البويهي سنة 373هـ، لمّا تقلد الأمور بعد أبيه عضد الدولة». ثم جمع تلك المسامرات في كتاب، بناء على طلب صديقه أبي الوفاء المهندس، الذي كان قد «قرّبه من الوزير، ووصله به
-6-
قدم التوحيدي موضوعات كتابه بمنهج حوارات بين شخصيات سردية متنوعة، تنطلق من حوار ثنائي مركزي تأسيسي يشكل حدّيه أو طرفيه مع محاوره الوزير أبي عبدالله، قبل أن يتشعب على جناحي حكاياته وأخباره وأسماره بتنوع أصواتها وشخصياتها، ليقدم موازنات ومقارناتٍ عقليةً وفكرية وأدبيةً متنوعة، تهمّ أهل الأدب والفكر.
-7-
الليلةُ السادسةُ، على سبيل المثال، تعنى بالمقارنة بين الأمم: «الروم، والعرب، وفارس، والهند، وثلاثٌ من هؤلاء عجم، وصعبٌ أن يقال: العرب وحدها أفضلُ من هؤلاء الثلاثة». والليلةُ السابعةُ، تعنى بالمقارنة بين «كتابة الحساب… وكتابة البلاغة والإنشاء والتحرير». تحمل حوارات كل ليلة مواقفَ المؤلف من قضايا الثقافة والسياسة والفكر والمجتمع، وما يتّصل بها من شخصيات، بروح نقدية عالية، تصل أحيانا مراتب الهجاء القاسي.
-8-
يختلف الناظرون في تحليل ظواهر السلوك البرِم المتمردِ القلقِ لهذا الأديب، والحكم على اتجاهات نزعاته النفسية والفكرية، لكنهم يتِّفقون على وصف زمنه، زمن تأليفه كتابَه «الإمتاع والمؤانسة»، في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، بأنه زمن تنامي سلطات الملوك والأمراء ووزرائهم في المقاطعات والأقاليم، على حساب تراجع السلطة المركزية للخلافة في بغداد.
-9-
وغلبا ما كان ذلك التنامي ذا طوابع صدامية مع المكونات المتناقضة في بيئته الاجتماعية المحلية، والبيئات الاجتماعية القريبة منه والبعيدة عنه، مما منح مراوح الصراعات والحروب آفاقَ دوران قاسيةً وظالمةً، من حين إلى حين.
-10-
وجد التوحيدي – الوراق البسيط القديم في أسواق بغداد – نفسه، ريشة طائر ثقافي مكابر، متطاول إلى فضاء فكري وثقافي منشود، في خضم هذا الشتات السياسي والاجتماعي، لعصره، فجرفته خصومات المتخاصمين بعواصفها العاتية، وأمعنت في إيذائه، وواجه أذاها بعناد أدبي وثقافي، خطّ في سطور كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وغيره من كتبه، بعدا إمتاعيا مؤانسا ظاهرا، وبعدا مضمِرا تمردا عاصفا على عنت زمنه ومتنفذيه.
-11-
كان أولئك المتنفذون ينعمون بامتلاك المال والسلطة والجاه، بينما يرسف – هو المتميز منهم بمؤهلاته الفكرية والثقافية – في قيود الفقر والقلق وملاحقة أصحاب الأذى، شأنه في ذلك شأن كثيرين من أدباء القرن الرابع، مثل أبي الطيب المتنبي وغيره… إنه أديب من أدباء شحذَ أذى زمنهم هممَ نفوسهم وأقلامهم، فكتبوا أدب عصرهم، الذي رآه د.شوقي ضيف من «أحفل العصور العربية بالنشاط الأدبي والعلمي والفلسفي
-12-
يمثّل هذا الكتاب مرحلة من مراحل ذرى النثر العربي، أسلوب التوحيدي أمين لتقاليد الكتابة النثرية العربية المشرقة التي غدت راسخة مع مؤلفات الجاحظ من قبل.
الكتاب حافل بحوارات متدفقة، تمنحه آفاقا عالية من الحيوية والتشويق، معمقة التربة الثقافية لاحتضان بذور مكونات المستقبل السردي والمسرحي للأدب العربي، من قصص حافلة بتقنيات القناع والرمز والحوار والسرد والتشويق و»الإمتاع والمؤانسة
-13-
كتاب يقدم صورا موسوعية لمثقفي القرن الرابع الهجري، وسياسييه، مثل الوزراء: الصاحب بن عباد، وابن العميد، وابن سعدان وغيرهم من الذين خص شخصياتهم بمدائح أو أهاج، حافلة بصور من التحليل النفسي والاجتماعي والفكري، فضلا عما يقدمه التوحيدي من رؤى في النقد الأدبي والجمالي، ورؤى فكرية تمنح اسمه مكانة بارزة بين نخب المثقفين والمفكرين في التاريخ العربي.
-14-
لم يستقبل هذا الكتاب بحفاوة مناسبة في عصر مؤلفه، الذي أحرق كتبه عندما لم يجد لها استقبالا لائقا لدى أهل عصره، وكتب موضحا بواعث إحراقه كتبَه، قائلا: «هذه الكتب حوتْ من أصناف العلم سرَّه وعلانيتَه، فأما ما كان سرّا فلم أجد له من يتحلّى بحقيقته راغبا، وأما ما كان علانيةً فلم أصب من يحرص عليه طالبا
-15-
غمز بعض ذاكريه – في القديم والحديث – من قناة عقيدته، غمزا لا يستند إلى حجج وبراهين، ودافع عنه غير دارس لأدبه، فنقل ياقوت الحموي قول ابن النجار عنه: «كان صحيح العقيدة»، وكتب حسن السندوبي في مطالع القرن العشرين: «وهذه كتب التوحيدي وآثاره، ليس فيها ما يشير إلى ضعف في العقيدة، أو ما يدخل أقل شبهة على استقامة الطريقة، وطهارة القلب من دغل
-16-
أثار نشر الكتاب في القرن العشرين ردود فعل ثقافية معبرة عن تقدير الكتاب ومؤلفه.
أ.د. راتب سكر