أقام المنتدى الثقافي الديمقراطي الفلسطيني في حماة ندوة بعنوان : (إعادة الإعمار الإنساني والأخلاقي) ، للباحث الأستاذ طالب اليازجي.
بداية تحدث المحاضر عن قصة واقعية عن علاقة تكوين الإنسان بتكون ورسم العالم قائلاً : اصطحب زوجته وصغيره في نزهة إلى الحديقة ، هناك أراد إلهاء صغيره بلعبة مفيدة ، فمزّق رسماً يُمثل خريطة العالم، ورمى بها أرضاً، ثمّ طلب من صغيره أن يعيدها كما كانت .. متوقعا أن يُمضي صغيره مزيداً من الوقت بعيداً عنه ، لكنّ الصغير فاجأه معيداً تكوين الصورة خلال وقت قياسي ، دُهش الوالد قبل أن يُفصح الصغير عن أنه لم يعد تشكيل الصورة إنما أعاد تكوين رسم يُمثل صورة وجه إنسان كان مرسوما على الوجه الآخر للورقة ، أخذ الأب يُحدث نفسه : إعادة تكوين إنسان يعني إعادة رسم عالم .
بعد ذلك انطلق الباحث اليازجي من حقيقة علمية أقرّت بأن الإنسان عبارة عن حيوان ناطق ، لكنه تابع يقول بأن الإنسان مخلوق حيواني خلوق بمعنى أنه نظيف . مهذب . . الخ ، و أخلاق لازمت الإنسان منذ بداياته وفي جميع مراحل تطوره ، ولكل مرحلة أخلاق خاصة بها ، و تاريخ الأخلاق يقول بأنها لا تقبل إعادة التدوير كونها لازمة ثقافية تشتغل شغل مقدمة وتشتغل نتيجة وبذات الوقت .
وبيّن اليازجي أنّ إعادة إعمار إنسان إضافة إلى إعادة إعمار أخلاق هي مهمة يجب إنجازها بلغة عقل تعتمد الموضوعية. مهمة لا يكتمل نجاحها إلا باعتماد العلم منهجاً بعيداً عن ضجيج الحراك الاجتماعي الخاضع إلى مجموع قيّمه وفضائله السائدة ، والتي تُمثل ماضٍ وأعرافاً وتقاليد يحتكم إليها ، وعلى اعتبار أنّ إعادة الإعمار تُمثل دوما مساحة في المستقبل لااستحضاراً أو استرجاع مساحة من الماضي وإجراء عملية إعادة تدوير لها ، لذا نجد أنّ حالة صحية يجب أن تزامن عملية إعادة إعمار إنسان أو إعادة إعمار أخلاق على حد سواء، حالة صحيّة تتمثل حصول مُكاشفة مشروطة بشفافية كاملة ما بين ماضٍ وآت ، مُكاشفة تبدو لمُراقب أنها مواجهة لكنّها ليست مواجهة بل هي مُكاشفة شفّافة يجب أن تنتهي مجتمعيا لا سلطويا . إن اعتماد مبدأ الشفافية منهجا في إعادة الإعمار يضمن زيادة فرص نجاح العملية ، كما يُشكل ضمان الانطلاق إلى العملية بشكل علمي واستمرارها بطريقة علمية حتى مراحل مُتقدمة ، علما أنّ لا نهاية بالنسبة لعملية بناء الأخلاق ، ذلك مرده أنّ الأخلاق بحد ذاتها مفهوم متحول ومُتفاعل يعمل إجرائيا إلى غايته وفق آليات دينامية تعتمد كافة السنن دون استثناء وتحترم العلم وفروضه ، العلم الذي توسع دوره ونفوذه في إرساء أخلاق العصر ، كما صنّع إنسان العصر .
وبين اليازجي أن عنوان المحاضرة ينقسم إلى فكرتين : الأولى هي إعادة إعمار الإنسان ، آثرنا الدخول إليه من علم الإنسان(الأنثروبولوجيا) الذي يركن إلى بُنى وهيكليّة شديدة التداخل مع علم الاجتماع، تداخل ما بين علمين يُنتج اجتماعيات تركن بدورها إلى الأخلاق والتي تُمثل، والفكرة الثانية تهدف إلى إعادة إعمار الأخلاق . وأن الأخلاق تعمل عمل ناظم وضابط إيقاع علاقات اجتماعية ينبثق عنها عادات وأعراف إضافة إلى تقاليد تعمل عمل قائد في المجتمع رغم أنها لا تمثل حالة رضا لدى جميع أعضاء المجتمع وغالباً ما تكون عاجزة عن تخديم واقع حال المجتمع ، ما يدفع إلى حالة من عدم الاستقرار تجسد تحوّل وتبدّل دائم تعيشه المجتمعات الحيّة (ناشئة أم متخلفة أم ناضجة متمدنة) دون استثناء تحت ضغط دافعة التقدم ورافعة الطموح ..
هنا لابد أن أذكّر بأننا نستخدم مصطلح مجتمع للتعبير عن حالات اجتماع بشري أو للتعبير عن اجتماعياتهم ، علما بأن مصطلح مجتمع هو درجة من درجات هيكلة التجمعات البشرية وليس جميع التجمعات البشرية وصلت أو ارتقت إلى هذه الرتبة.
ومهما غالت بعض هذه التجمعات المُنتشرة عبر المسكونة في تقديم ذاتها على أنها تحيّا حالة مجتمع ناضج ) . إنّ إدراك أهل المجتمعات إلى الرتبة المُجتمعية التي يستقرون إليها والاعتراف بذلك أيضا يُعتبر مرحلة مصيرية بالنسبة إلى قرار إعادة الإعمار .
هنا لابد من الإشارة إلى أنّ كل تجمع بشري على حدة يحتاج إلى قرار يصدر عن مجتمعه ذاته أولاً كي تبدأ مسيرة النهوض ورسم مُستقبلٍ زاهر لأبنائه .
وأوضح الباحث اليازجي أن (إعادة إعمار الإنسان) درب يُحتم علينا قراءة لوحتين عملاقتين حيث نبدأ بقراءة لوحة ثانية : رسمت مشهداً عالمياً ونحن جزء منها، مشهد يعترف بأن الثابت الوحيد كونيا هو اللا ثابت هو التحول والتبدل وفق آلية حركة مستقرة. لوحة احتوت على حروب أشد وأخطر من أية حروب عرَفَتها الإنسانية حتى الساعة.
لوحة تركت مساحة مفتوحة تعبر عن عالم يحيا الثورة الصناعية الخامسة ويتقدم في درب تكنولوجيا توصلت إلى رتب ذكاء صناعي تفوق قدرات العقل البشري .
مساحة أخرى فرضت ذاتها مثّلت ثقافة تأتّت عبر دروب حمراء ، درب اعتبرت معاناة البشر جزءاً لا يتجزأ من مكونات دوافع ديمومة التقدم والإعمار .
لوحة احتوت أيضاً فضاء رحباً يُجسد منظومة أخلاق كونيّة، مصادر تشريعها مُتأتية من علم الاقتصاد السياسي حصراً دون سواه ، تشريع لا يُخاصم مصادر تشريع أخرى لكنّه لا يحترمها ولا يحتسب لها أي حساب إلّا ضمن الحدود التي يرى أنّ وجودها وحضورها يدعم آلية التقدم ويُجذر الإعمار .
من خلال منظومة الأخلاق الكونيّة نَعبر – متسلحين بعلم وأدواته – إلى قراءة اللوحة الأولى: تُمثل رسم مشهد محلي نقرأه وفق مفردات عالمية شديدة الاختلاف والتباين عن المفردات المحليّة السائدة في كل مجتمع على حدة – حالة تنسحب على مستوى المسكونة وليس فقط بالنسبة للمجتمع السوري فقط – . مشهد محلي أجزاؤه مُشكلة من المجتمع كمؤسسة والدولة كمؤسسة أيضا ، شريكين اثنين يُجسدان حقل اشتغال الإعمار .
مشهد محلي يسيطر على أجزائه ردّات فعل مناهضة لفعل (اللاثابت) ، فعل تحول ذو ديمومة يتقدم على هودج مصطلحات جديدة ، يناهض فطريا يُدافع عن منظومة أخلاقيّة محليّة صوابا كانت أم خطأ ، انطلاقا من كون المجتمع على صلة رحم مع الإنسان الفرد الذي هو حقل زراعة طموحنا إعمار الإنسان ،و أيضا هو مضمار إشادة صرح الإنسانية . إنّ فعل بناء إنسان يُصاحبه حتما فعل بناء مجتمع ، فعل مُركب يتطلب منهجية علمية تدفعنا قسرا إلى مُذاكرة علم الإنسان (الانثروبولوجيا) من خلال عرض موجز جدا لتراكم دراساته وأبحاثه الاجتماعية وتفاصيلها المجتمعيّة ، حيث نكتشف أنه علم تعملق و أصبح له فروع : انثروبولوجيا طبيعية أو فيزيائية يُتابع النمو الجسدي للإنسان من الناحية التطورية (تاريخ تطوره جسمانيا) وفرع آخر يُعنى بعادات الشعوب وتاريخها أطلق عليه انثربولوجيا ثقافية.
فرع ثالث هو انثربولوجيا اجتماعية يُعنى بدراسة النظم الاجتماعية ، فرع جسّد قناة تواصل مع علم الاجتماع . فروع جميعها تهدف إلى فهم مشكلات الإنسان الحالي وسط زحام الإنسانية الراهنة بهدف إصلاحها والتغلب عليها اعتمادا على الفرع الرابع المُسمى انثروبولوجيا تطبيقية.
من الفرع الرابع علم الإنسان التطبيقي نتقدم أيضاً إلى جعل الفرد والمجتمع خاضع إلى ديمومة تطبيق مخبري (مخبر).
هنا لابد من التذكير بنظام ليبرالي يجتاح العالم . يصبح الفرد إضافة إلى مجتمعه كمن يجلس في امتحان دائم يتمدد تلقائيا جارفا معه كل الحالات الاجتماعية باتجاه تغيير حاصل لامحالة ، حيث يأتي دور النخب التنويرية إن وجدت كي تشتغل مع أعضاء المجتمع بهدف التأثير باتجاه التحول ومحاولة التحكم به وقيادته بناء مجتمع سوري يمتاز بأخلاق إنسانية راقية .
من تلازم الإنسان والأخلاق نوضح الفكرة الثانية الهادفة إلى إعمار هيكل أخلاق، كون مصطلح «إنسان» يُعتبر فاقد القيمة دون مُلازمته لمصطلح «أخلاق . نحاول التقدم إلى فهم أفضل لمصطلح أخلاق يعبر عن منظومة علاقات ناظمة وضابطة للتواصل بين أعضاء المجتمع بحيث تؤمن شرط الكرامة والشرف لكل مكونات المجتمع ولكل أعضائه(كل مهنة تعتبر عضواً، وكل وسيلة إنتاج تعتبر عضواً أيضاً).
وأوضح اليازجي أنه : وقوفا أمام دلالة الأخلاق وإسقاطاتها التي حاولنا تسليط الضوء عليها نحبو سريعا برفقة مفاهيم عصرية مثل: – مصطلح الذوق العام المرتبط ارتباطا عضويا بمفهوم الذائقة الجمالية والذائقة الفنية . مفهوم السعادة الشخصية المرتبطة ارتباطاً عضوياً أيضاً بمفهوم الاحترام الذي تمنحه أولويةً على سُلم الأولويات المجتمعية .
إنّ تلازم بناء إنسان مع إعمار أخلاق تفرض إقرار خطة مديدة لا تنتهي بحقبة أو مرحلة بل تتجاوز إلى رسم درب تربية يتشارك خلاله كل من المؤسستين ، درب يَشتغلُ على رأب كل صدع أو سد كل ثغرة أو قصور لايقوى أهل أو الوالدين على شغله، كما تشتغل على حصر دور الأهل والوالدين تربويا بإنماء الكينونة العاطفية بعد أن أصبح هدف التربية تنمية قُدرات ومواهب وكفاءات الفرد بما ينسجم ومتطلبات عصرِ سرعة تتسارع، عصر قبض مقود الزمن وفقط الزمن واعتبره تحدياً كبيراً وهدفاً استراتيجياً بآن معا وبين اليازجي أنه يتم بناء إنسان قادر على تخطي التحديات من خلال :
بناء بُنيان نفسي شخصي ونفس مُجتمعية أيضا ، بالتوازي مع بناء عقل فردي عصري قادر على قراءة عقل جماعي .
محاولة الارتقاء بلغة المشاعر الإنسانية (اللاشعورية منها والشعورية أيضا إلى رتبة طموحة تساعد في نماء الذوق العام قبل الخاص) وصولاً إلى بناء بُنيان عاطفي يقوم في جسد سليم ويتبادل معه الاحترام .
ننتهي تلقائياً إلى إعمار ثقافةٍ عقيدتها المصير المشترك تشتغل مجتمعيّا ، وبموضوعية تربط ما بين أحلام الفرد وأهداف المجتمع ، موضوعية تَعتبر التاريخ عبارة عن تجارب ليس إلّا منها ما هو ضار ومنها ما هو نافع، موضوعية بعيدة عن أي أدلجة تُعيد موضع الأحداث وفق سياقها التاريخي، كما تُعيد موضع الشخصيات التاريخية وفقا للزمان والمكان الذي أنتجها.
جميعها مراحل بناء مُتطلبة يتوجب إتمامها باستخدام أدوات ووسائل أولها:
تنصيب خشبة مسرح تشتغل لحظيا على زرع حب المعرفة والمطالعة . إعلاء صوت الموسيقا كأداة تربوية .
الرياضة بخلاف أنواعها الفكرية والبدنية .
إلى ما هنالك من محاولات خلق مقدمات عُمران يتأتى معه إعادة إعمار الإنسان كما إعادة إعمار الأخلاق كنتيجة حتمية .
وانطلاقاً من شيوع ثقافة عالمية مُتسلحة تكنولوجيا نجد أن من الصعوبة إنشاء جزيرة معزولة أيا كان موطنها في الأرض ، وسورية منبت أغلب حضارات الأرض، سورية عبارة عن شجرة مُثمرة قادرة على التمازج والتزاوج والتفوق وفق مقاييس مذهب الإنسانية الذي يسود المسكونة ، ونلاحظ أن (تلميذ ذكر يُعاقب على ارتكابه إثماً أو خطأ ما ، بأن يجلس بجوار أنثيين كإهانة له) وضمناً الإهانة تتمدد إلى إهانة مُفردة (أنثى) حيث نتربى على ذلك منذ طفولتنا الأولى.
الليوناردو دافنشي زامن تحوّل اجتماعي باتجاه مجتمع صناعي أكثر تعقيدا عبرته أوروبا آنذاك ، حيث لخّص قائلاً تعلم كيف ترى حتى تبصر بأن كل الأمور متعلقة ومربوطة بعضها ببعض .
ذلك على عكس ما سبق تلك الحقبة إذ كان أعضاء التجمعات البشرية يحتكمون فيما بينهم إلى علاقات جد بسيطة ، أقل تركيبا وتعقيداً.
قول يعكس حجم التشبيك والتعقيد الذي اجتاح المجتمع الجديد بعد أن انطلقت مسيرة علمنة وعولمة بآن واحد ، واستمرت حتى يومنا هذا على شكل حراك فكري يعكس صراعا فكرياً حادا ومديدا .
مجتمع يصدر ضجيجاً أعلى بكثير من رتبة تفكيره … وفي ختام اللقاء الذي أخذ اللون الفلسفي خاصاً في أعماق الإنسان والأخلاق وماهية كل منهما تم فتح باب الحوار مع الحضور الذي أضاف للندوة زوايا وأبواب أخرى مفيدة.
ماجد غريب
المزيد...