يتساءل المتسائلون عن الفن ووظيفته في مواجهة الأحداث العاصفة، وفي صنع التاريخ… وهو، فيما أزعم، تساؤل زائف، أنتجته سجالات عقيمة بين أنصار الفن للفن أو وأنصار الفن للواقع وغير ذلك من المصطلحات التي لم تعد تحمل أية شرعية فنية أو معرفية، بعد أن كانت جزءاً من عتاد السجال والمواجهة بين دول المنظومة الاشتراكية والعالم الرأسمالي (الذي كان يحلو له أن يسمي نفسه بالعالم الحرّ؟!!)
وقد آن الآوان لمراجعة الخطاب النقدي الذي تم إنتاجه في سنوات السجال بين المعسكرين للتخلص من هيمنة الأيديولوجيا التي أدت الى تغييب ما هو فني لمصلحة ما هو سياسي، كما آن الآوان لتوقف نزيف الحبر والفكر في سجالات (بيزنطية) لا تخدم قضية الفن ولا قضية المجتمع، بعد أن أدى هذا السجال الى شقّ (علم الجمال) الى علمين (علم جمال ماركسي وعلم جمال رأسمالي) لكل منهما معاييره ومقاييسه!،
يطرب الأولون للفن الواقعي الذي تنبعث منه رائحة عرق العمال ودخان المصانع… ويطرب الآخرون للفن الفانتازي الذي تنبعث منه روائح العطور الباريسية المشهورة!
الفن الحقيقي في عرف الفئة الأولى هو الذي يعكس هموم الناس ويعبّر عن حاجاتهم (أو يدّعي ذلك)… أما في عرف الفئة الثانية فهو الذي يتخفف من ضغوط الواقع لأنها آنية ومؤقتة… وتنسى الفئتان أن الفن فعالية مستقلة بذاتها، مثلها مثل أية فعالية أخرى، وعليها أن تهتم بأدواتها وتقنياتها بالدرجة الأولى… أما محتوى هذه الفعالية فلا خوف منه (ولا عليه)، لأن الفنان ابن بيئة معينة ومرحلة محددة، لها أسئلتها ومحكومة بشروطها، ولن يستطيع الإفلات من تلك الشروط وتلك الأسئلة إلا المذهولون عما حولهم، وهؤلاء لا يعتد بهم. المهم في الفن، كما قلت مراراً، كيفية القول وليس محتوى القول، فالفن، أياً كان، صياغة وضرب من التصوير (على حدّ قول الجاحظ في وصف الشعر).
وعندما يهتم الفنان بفنه، أولاً وأخيراً، فلا خوف من ذلك على قضايا المجتمع، لأن الفنان لن يستورد قضاياه من عالم مفارق، ولا من مجتمع آخر مغاير… وإن فعل ذلك أحياناً فهي حالات معزولة وغير مطردة، أما الفنانون الذين أصرّوا على العيش في عوالم مفارقة فقد عزلهم مجتمعهم، وتركهم في أبراجهم المصمتة، يجترون صورهم الغرائبية، ويهلوسون كمن مسّـه الشيطان بعارض من الجنون…. وكفى بهذا العزل عقاباً لهم.
ومهما بالغ دعاة الفن للفن في الحديث عن خصوصية الفن، وعن استقلاله بذاته، وعن ترفعه عن خدمة أية أيديولوجية… فإنهم لا يستطيعون أن ينكروا أن الفن نسق عضوي من أنساق الفعاليات الإنسانية الأخرى، وأنه ابن مجتمعه وما فيه من قضايا وأحداث، وأنه داخل في تلك الأنساق متواشج معها، وإن كان نسقاً متمايزاً وذا طبيعة خاصة. وبالمقابل لايستطيع ناقد يحترم نفسه أن ينكر أن للفن رؤية في مجمل ما يجري في المجتمع، حتى حين يخدعنا بشغله وتقنيته فنحسب أنه لا يقول شيئاً مع إنه في الحقيقة يقول… بل ويقول الكثير (حتى وإن صمت، فربما كان الصمت موقفاً أشد بلاغة في كثير من الحالات)، فالفن لا يمكن أن يكون خاوياً، ولا أن يعبّر عن اللاشيء، ولا يمكنه أن يهرب من القضايا التي تهم الناس، ولاسيما القضايا التي تهدد وجودهم وهويتهم وعقائدهم وأوطانهم.
وعلم الجمال (المتكون من نظريات متعددة) يهدف الى تزويد الفنان والمتلقي بثقافة فنية وتقنية خاصة، وبمنظومات فكرية وفلسفية واجتماعية تساعده في إنتاج أعمال تمتلك المعايير الفنية والتقنية الضرورية من جهة، وفي الحكم عليها وتقويمها من جهة أخرى….
وأكرر قائلاً: إن المهم في العمل الفني كيفية القول، وكيفية التعبير عن الواقع، أي محاولة تقديم معادل فني لهذا الواقع، وليس مجرد عكسه وتقديم صورة فوتوغرافية عنه… دون أن ننسى أن هذا الواقع قد يكون صادماً، وبليغاً في التعبير عن نفسه بصورة تفوق أي تعبير آخر (ما يجري الآن محرقة فظيعة يذهل الشيطان نفسه من وحشيتها)، مما يجعل التعبير عنه تعبيراً يكافئه في الدلالة والقوة ضرب من المغامرة، ولاسيما في الوقت الذي مازال فيه هذا الواقع في طور التخلق والحدوث…
فالفن الذي يغامر في التعبير عن الواقع لحظة تخلقه وحدوثه، سيكون في أحسن الحالات فناً وصفياً، حتى وإن كان صادقاً، مما يجعله فناً مؤقتاً سرعان ما يزول بزوال الواقع الذي يصفه، وعندما تبرد الأحداث، وتنجز ذاتها، سيغدو هذا الفن غير ذي قيمة فنية وغير ذي فائدة تعبوية، في حين أن الفن الذي امتلك رؤية خاصة في هذا الواقع هو الذي يدوم ويخلد في الذاكرة (الذاكرة الجمعية وذاكرة الأفراد)، وقد أطلق النقّاد على الشعر الذي ينتجه صاحبه استجابة لحادثة معينة اسم شعر المناسبات، وقد اتفقوا على كون هذا الشعر أقلّ قيمة فنية من سواه عند الشاعر نفسه، كما اتفقوا على أن الشعراء الذين رهنوا شعرهم للمناسبات المختلفة لم يستطيعوا أن يرتقوا بشعرهم الى آفاق فنية مرموقة. وهذا الشعر الذي لم يرض النقاد فنياً كان له دور تعبوي في حفز الجماهير على النضال في سبيل تحصيل حقوقها، وكلام النقاد لا يعني الدعوة إلى تبلد إحساس الفنان وامتناعه عن المشاركة في المقاومة بحجة أن الأعمال التي سينتجها لن ترتقي إلى المستوى الفني الذي يطلبه النقاد، فنحن لا يمكن أن نقبل منه السكوت عما يجري حتى تختمر الأحداث في مخبره الفني، إذ لابدّ من أن يقول شيئاً في هذا الذي يستهدف هويته ووجود مجتمعه ووطنه وحضارته… كل ما أردت قوله يتلخص بمايلي: ان الأعمال الفنية التي تنتج في معمعة الأحداث غالباً ما تتخفف من مستلزمات الفن وشروطه لحاجات تعبوية، وهو أمر مفهوم ومبرر ومطلوب؛ وأنا أقصد الأعمال الفنية التي ينتجها فنانون معترف بهم كمبدعين حقيقيين، ولا أقصد أعمال الأدعياء الذين يستغلون الحاجة الإعلامية الآنية المؤقتة، والذين ينفثون عبر وسائل الإعلام أعمالاً رديئة وهجينة مستغلين حاجة هذه الوسائل إلى المواد… فهؤلاء وأعمالهم يعدّون في اللاشيء، وهم الى نسيان حتماً.
محمد راتب الحلاق