الموروث يعني كل ما أنجزه الأسلاف، أو فكروا به، أو اعتقدوا به. ويدخل في شموله الفنون والآداب والتقاليد وأنماط السلوك … أما التراث فهو ما استطاع الصمود عبر الزمان من هذا الموروث، أي ما بقي فاعلاً بكيفية ما من الفعل. فالتراث، إذن، هو نحن، أو إن شاء القارئ هو هويتنا وكل ما يميزنا من سوانا. وقد صنف الباحثون التراث إلى تراث : رسمي وتراث شعبي. وفي هذه المقالة سأحصر الحديث، بإيجاز شديد، عن التراث الشعبي، أو ما يطلق عليه الفولكلور ( وهو مصطلح استعارته اللغات جميعاً من اللغة الألمانية، في الدراسات الأكاديمية على الأقل ) .
وإذا كان الأوربيون قد بدؤوا البحث في تراثهم الشعبي منذ منتصف القرن التاسع عشر ، قبل أن تتحول أبحاثهم إلى علم قائم بذاته، له منهجه ونظرياته، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى اعتراف المؤسسات الأكاديمية به، وإلى تبني الهيئات العلمية الدولية له، إلى جانب فروع العلوم الإنسانية الأخرى .أما في الوطن العربي، ولأسباب أيديولوجية : قومية ودينية، فقد تعسرت ولادة هذا العلم، ومازال يعاني من الصد والشك والريبة، رغم أن الذين دعوا إلى الاهتمام بالتراث الشعبي كانوا من العيار الثقافي الثقيل : ( أحمد أمين، أمين الخولي، أحمد تيمور، طه حسين، سهير القلماوي، عبد العزيز الأهواني، عبد الحميد يونس، أحمد رشدي صالح …) . وأزعم بأن تصدي بعض الأفراد القادمين من الشرائح المتهمة بولائها القومي والعروبي، أو هم أنفسهم من المتهمين بالمروق من الهوية العربية الإسلامية، للبحث في التراث الشعبي قد حال دون تقدم هذه البحوث وجعلها موضع شبهة، ولاسيما أن أكثر هؤلاء ممن لا يملك الثقافة اللازمة عن تراث أمته، وإنما كان يهرف بما لا يعرف، ويردد مقولات وادعاءات ومصطلحات استشراقية تضمر عداء، ظاهراً وباطناً، لكل ما هو عربي أو إسلامي ، وتهدف إلى تقويض التراث العربي الواحد، والثقافة العربية الموحدة، لصالح تنوعات ثقافية محلية . وهذا ما يفسر اهتمام الجامعات الغربية، ولاسيما الفرنسية منها، في مرحلة من المراحل، باللهجات المحلية في أقاليم المغرب العربي وبلاد الشام ، حيث دعمت الدراسات التي ترتاد هذا المجال ومولتها وقدمت التسهيلات اللازمة لها … على أساس أن هذه الدراسات ستؤدي، عاجلاً أو آجلاً، إلى إحداث شروخ حاسمة في بنية الثقافة العربية الإسلامية، وإلى نشوء ثقافات محلية تتعمق شيئاً فشيئاً إلى أن يصبح كل قطر، بل كل منطقة، معزولاً ثقافياً وسياسياً .
ومع ذلك تبقى الدعوة إلى دراسة التراث الشعبي دعوة مشروعة ومبررة معرفياً، شرط أن تبقى في أفق الدراسة العلمية والموضوعية المبرأة من خدمة الأيديولوجيات والبرامج السياسية لهذا الطرف أو ذاك، وأن تبقى بيد الدارسين المؤهلين علمياً ومعرفياً. والمتحررين من التبعية للسياسيين والأيديولوجيين الذين يريدون توظيف نتائج هذه الدراسات لخدمة دعوات إقليمية أو طائفية أو انعزالية مشبوهة.
وحتى نسحب البساط من تحت من لا يريد بالأمة خيراً أرى أن تكون دراسة التراث الشعبي ضمن اهتمامات كليات الآداب والعلوم الإنسانية في الجامعات العربية، وأن يكلف الطلاب، كخطوة أولى، بإعداد حلقات بحث تتناول الفنون الكلامية الشعبية، الشفهية والمدونة … والتي تدور حول المعتقدات والمعارف الشعبية، وحول العادات والتقاليد الشعبية، والفنون والآداب الشعبية ( المادية وغير المادية ) ، لأن الاهتمام بالتراث الشعبي، إلى جانب أنه يضمن تواصل الأجيال فإنه :
– يغني الدراسات النقدية ويمنحها المزيد من القوة على استكناه جوانية النصوص .
– يغني تجربة المبدعين من الشعراء والقاصين والروائيين ويعطيها مدى متسعاً عبر الزمان والمكان .
– يعطي لكتَّاب أدب الأطفال مادة ثرة يستطيعون تحميلها بالقيم الوطنية والقومية والإنسانية والأخلاقية …..
– يخدم دراسات الأدب المقارن ، ضمن الأدب ذاته عبر المراحل المختلفة، ومضاهاة هذا الأدب مع آداب الأمم الأخرى.
والاهتمام بالتراث الشعبي ليس جديداً على الأدب العربي، فقد اهتم به الأصفهاني والجاحظ وأبو حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني وسواهم كثيرون . والذي دفعني إلى كتابة هذه المقالة ما أقرؤه وأسمعه وأراه من إقدام بعض الأفراد ، على التنظير في شؤون ( الفولكلور ) ، لمجرد أنه يعرف كيف يلفظ هذا المصطلح، لا أكثر ولا أقل، دون أن يمتلك أية ثقافة تؤهله للبحث في الموضوع، ومع ذلك نراه يشرق ويغرب دون أن يرف له جفن … وكأن البحث في الفولكلور من الأمور السائبة والمباحة لكل من هب ودب.
محمد راتب الحلاق