لم يخطئ أرسطو عندما اعتبر التأمل في كتابه « فلسفة الأخلاق « أنه أعلى صورة للنشاط العقلي وذلك لما يترك ويورث الإنسان المتأمّل من طاقات روحية ونفسية ثرّة وباذخة تنقله تجاه عوالم خاصة من خلال مفردات خاصة .
التأمل، هذا الطقس المهيب الذي درجت على ممارسته لدرجة أصبح من مفرداتي اليومية ,وكما قلنا في غير موضع إن تأمل مفردات الله المسطورة في آفاقه لا تقل أهمية عن تأمل مفرداته المسطورة في كتبه , فتأمل شروق الشمس وحبوّها نحونا، والإصغاء لهذا السكون الكوني المهيب في ثواني الغلس الأولى، الإصغاء لصوت الريح وما تتركه بين غابات السنديان ..التفكر في ظاهرة البرق ،الرعد، المطر، كل هذا لا يقل أهمية وإغناء للروح والقلب والعقل عن قراءة مجلدات لرموز الفكر الأدب والدين .
أعود لما درجت عليه من تأمل فأقول :..تأخذني دائما شجرات الدار وتدهشني ( دالية العنب – شجرة التين – الرمان – اللوز والدراق وقت الزهر . .الخ وفي كثير من الأحيان كنت أرتعش وأنا أنثر حبة قمح مثلاً أو بذرة أي نوع من المزروعات . . كنت أرقبها بعد أيام كيف تنبت . . تنمو وتنمو . . تزهر . . تثمر . . تصفر أوراقها ..وتيبس . . تيبس . . تيبس . . يا الله كم نشبهها تماماً ولكن . . لكن أكثر الناس لايتفكرون . . وكان يخيفني ويرعبني لا بل يرجف قلبي حين تساقطت ورقة من شجر وقت خريف ..فأحسب رووووحي تيبس . . تسقط . . يغشى عليّ .
أما في هذه الأيام يروق لي وبكل الأوقات لاسيما ساعات الصباح الأولى ووقت المغرب أن أقف قبالة شجرة الزيتون الكبيرة في أرض الدار ..أتأملها فتشفُّ روحي , أمرّرُ أناملي بكل قداسة على حبّاتها، أوراقها فتسري بجسدي قشعريرة ..رجفة حنونة أخّاذة .
شجرة زيتون طافحة بالنور ..بالشعر ..أتأملها تسبقني أناملي تجاهها أمشطها كعاشق كلف بضفيرة من يُحب ..ترتجف أناملي كراهب في معبد عتيق ألف تأمل .
أعود وأقول كيف لا أشعر بالقشعريرة وبالرعشة وبطاقة روحية فائقة فارت وما تزال . . وبنور سرى جسدي . .كيف والكتب السماوية ( توراة – إنجيل – قرآن ) تزينت وتغنت بعوالمها النورانية
شجرة تعتبر أقدم ما عرفه الإنسان وهناك من أطلق على بعض أصنافها بشقيقات نوح لأنها أكبر مخلوق حي في العالم .
كيف وكيف فالتاريخ بأزمنته أنبأنا بأن كل الرسل والأنبياء والقديسين والمفكرين والمصلحين والصوفيين والشعراء وغيرهم من المبدعين وقبل أن يتنزّل عليهم الوحي الربّاني عاشوا حالات تأمل وعزلة في كنه ذواتهم . . قلوبهم . . أرواحهم فتسفُّ وترقُّ.
مرّوا ومازالوا يمرّون بمراحل تأمل الموجودات . . الخلق، الموت، البراري، وتلك الأمداء والأنداء . . هول الجسد . . والإصغاء الحنون لوجيب القلب وللروح. . فيأتي صوت حنون وشفيف: انظر. . تأمل.. تفكّر. . إن ما تفور به شجرة الزيتون من نور هي ما فارت وتفور به روحك وقلبك.. قم واصغِ لسقسقة ماء قلبك وافرح.. ابتهج..
عباس حيروقة