في أدبنا العربي شعراء عشاق شغلوا الدنيا بقصص حبهم وحكايات غرامهم, وقد حفلت كتب الأدب بأشعارهم وأخبارهم وقصصهم حتى إن بعضهم لم يُعرف إلا من خلال قصيدة يتيمة واحدة, كأنه لم يقل غيرها من أمثال:
ـ ابن زريق البغدادي في قصيدة: لاتعذليه (وهي قصيدة مشهورة يتوجع فيها ويحن إلى زوجه النائية البعيدة!!
ـ ولكن هناك شاعر واحد له طريقته المختلفة..
شاعر واحد له التفرد في التعبير عن حبّه وحنينه إلى مشعوقته!!
هو لم يكن كمجنون ليلى, أو ( كثير عزة) !! لم يكن مثل أي منها بكاءً وتوجعاً وذكراً لبعد الحبيب وألم النوى وليالي السهاد ! لم يكن مثل أي واحد من أولئك العشاق المجانين!! كان عاشقاً مفرداً يبحث في عشقه عن الحقيقة المطلقة, حقيقة الحياة والعالم !!
لقد تدلّه (الشهرزوري) حباً, هام بمعشوقة غريبة فريدة!..
لايصعب عليه ـ بل يستحيل لقاؤها, وهو مغرم ـ دائماً ـ بحب الحقيقة المجردة, حتى يصحّ أن نطلق عليه: إنه إمام في العشق(!!)
بدأ شاعرنا الشهرزوري جولته برفقة صحبه!! وكلهم متبتل ينشد شيئاً بعينه.. وهذه الصحبة المتيمة بالحب كانت مثله تبحث عن الحقيقة المطلقة, عن معشوقة ترمز إليها بـ ( ليلى)!! وخُذْ ماشئت من هذه الأبيات من شعر وخيال وموسيقا وحكمة عالية وفلسفة عميقة ومغامرة وحبّ وتضحية وعشق !!
هاهنا تتجلى الشاعرية, وتتجلى قوة الرؤيا والتأمل العميق, يقول الشهرزوري واصفاً رحلته المضنية في البحث عن الحقيقة في هذه القصيدة الفريدة ـ نادي ليلى ـ :
لمعت نارهم وقد عسعس الليل
وملّ الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليل ولحظ عيني كليل
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنّى وغرامي ذاك الغرام الدخيل
ثم قابلتها وقلت لصحبي هذه النار نار ليلى فميلوا
فرموا نحوها لحاظاً صحيحات فعادت خواسئاً وهي حول
ثم مالوا إلى الملام وقالوا خلّب ما رأيت أم تخييل
فتجنبتهم وملت إليها والهوى مركبي وشوقي الزميل
ومعي صاحب أتى يقتفي الآثار والحب شأنه التطفيل
فدنونا من الطلول فحالت زفرات من دونها وعويل
قلت مَنْ بالديار ؟ قالت جريح وأسير مكبّل وقتيل
ما الذي جئت تبتغي قلت : ضيف جاء يبغي القرى فأين النزول
فأشارت للرحل دونك فاعقرها فما عندنا لضيف رحيل
من أتانا ألقى عصا السير عنه قلت من لي بذا وكيف السبيل
فحططنا إلى منازل قوم صرعتهم قبل المذاق الشمول
قلت : أهل الهوى سلام عليكم لي فؤاد عنكم بكم مشغول
لم يزل حافز من الشوق يحدو بي إليكم والحادثات تحول:
جئت كي أصطلي فهل لي إلى ناركم هذه الغداة سبيل
فأجابت شواهد الحال عنهم كل حدّ من دونها مغلول
دارنا هذه تضيء لمن يسري بليل لكنها لاتنيل
هذه حالنا وما وصل العلم إلينا وكل حال تحول
تلك هي صورة الشاعر..
وذلك هو الشعر المحلق المؤثر..
وهذه القصيدة الفريدة ترتفع بالحب وترتقي بالعشق إلى مرتبة سامية وما من شاعر يرقى بكلماته إلى هذه المرتبة إلا مجيد متميز.. ما من شاعر يحتفي بالحبّ والموسيقا والخيال والتميز بلغة شعرية محلقة إلا يكتب له البقاء طويلاً طويلاً .