بيت الـــتراب التـــراثي ..دفء المحبـــة والتقــارب الاجتمــاعي المعــرجلينة والسـاموك مــن مـــستلزماته
يتمسك ابن الريف في مصياف منذ الازل بأرضه وبمكانه الذي يعيش فيه وكانت الحياة الاجتماعية من ألفة ومحبة وتعاون واللمة الاجتماعية والإنسانية التي زادته تمسكاً بالمحيط الذي يعيشه وذلك لشعوره بالأمان في أرضه وبين أقاربه وجيرانه، وكان لبناء المنول الريفي حكايا جبلت بالمحبة والتعاون بين الجيران فكان الدفء الذي يشعر به في ذلك المكان الذي يأويه من برد وعواصف الشتاء وحر الصيف مختلطاً بدفء العاطفة وروح المحبة.
(بيت التراب)
كان هذا المنزل يبنى وسط أهله ومعارفه وفي حارته معتمداً في بنائه على المواد الأولية المتوافرة في بيئته المحيطة والتي كانت بسيطة جداً ولكن في نفس الوقت تفي بالغرض الذي سوف تستخدم من أجله وبأحسن الحالات كانت البيوت تبنى عن طريق (العونة)(الفزعة) أي تعاون الناس مع بعضها البعض وكانت في الغالب بزيادة غرفة إلى المنزل ليسكن فيها عريس من شباب المنزل حيث ستكون هذه الغرفة منزله له ولزوجته.
في هذا اليوم يجتمع الخلان والأقارب لمساعدة صاحب المنزل في بناء هذه الغرفة ويكون هناك عدد كبير لمساعدتهم في البناء لأن العمل تعاون متبادل هذه اللمة الرائعة من المحبة والتعاون تبدأ بتحديد مكان بناء الغرفة وتحدد أبعادها ويتم وضع حجر الأساس لكل جدار بعد حفر مجرى صغيراً في الأرض لكي يتم وضع الأساس للجدار فيه ويبدأ البناء بصنع جدران عريضة وذلك لكي تحتمل ثقل السقف ولكي تكون متينة وعازلة ويكون الجدار على الشكل التالي: (أحجار كبيرة – جمش «حجارة صغيرة وحصى» مع كلس وتراب – أحجار كبيرة)وبالتالي يصل سمك الجدار أحياناً إلى المتر (حيط عالحبتين وبينهما الجمش).
الحجارة تأتي من صخور المنطقة وبالتالي تكون الحجارة في مصياف من الصخور الكلسية وكان هناك في مصياف أصحاب مهنة تكسير الحجارة والصخور وتشكيلها يسمى الكسّار ، ومع دخول الإسمنت كان بعض هؤلاء يقومون بتكسير الحجارة لتصبح حصى للصبّة (صب السطح)
يستمر بناء الجدار على هذه الطريقة وبوضع الكلس كمادة رابطة بين الحجارة وبين الجمشات حتى يصل إلى الارتفاع المطلوب من 4 – 5 م حيث كانت البيوت القديمة مرتفعة الأسقف وذلك بسبب وجود الكانون وصوبة الحطب داخل الغرفة وبالتالي صعود غازات الاحتراق حيث إن هذا الارتفاع يسمح بصعود هذه الغازات بعيدا عن مستوى تنفس الإنسان وزيادة حجم الهواء في الغرفة وبالتالي تقليل تركيز هذه الغازات وأيضا لوجود فتحة بين السقف والجدار (الرَوزَنِه) تعمل كشافط لهذه الغازات وبالتالي تخفيف تركيزها بشكل مستمر.
بعد وصول كافة الجدران إلى الارتفاع المطلوب تغطى الشقوق المنسية بالكلس أو الطينة المستخدمة (البعض يستخدم تراب مع تبن) وتغطى الجدران من الداخل بتربة بيضاء تسمى حوارة (متل التلييس)
نتيجة لسمك هذه الجدران كان هناك عملية لاستغلال هذا السمك عن طريق صنع خزانات (مفردها خزانة) في هذه الجدران لوضع الحاجات وأدوات المنزل فكان هناك الخرستانة و اليوك.
اليوك هو عبارة فتحة كبيرة عرضها يصل إلى 2 م وارتفاعها 3 م وعمقها في الجدار نحو نصف عرض الجدار أو أكبر بقليل لذلك البعض كان يصنع جدار الخرستانة واليوك بعرض كبير
فائدة اليوك هو وضع الفرشات واللحف والحرامات والبسط والشراشف و المخدات حيث لم تكن هناك أسرة للنوم عليها بل فرشات تمد على الأرض بجانب بعضها البعض والكل ينامون بجانب بعضهم البعض في البيت .
أما الخرستانة فكانت مثل اليوك ولكن على أصغر أو بحجمها ولكن تحوي على رفوف خشبية تستخدم لوضع الطعام عليها أو بعض الحاجات الأخرى .
النوافذ بشكل عام كانت قليلة ولكن تصنع على شكل قنطرة حتى تحمل ثقل الحجارة فوقها حيث يتم تعشيق أحجار القنطرة مع بعضها البعض بطريقتين إما عن طريق ثقل الحجارة وبالتالي تكون الحجارة لها اشكال شبه مخروطية حتى تستند على بعضها البعض أو يتم صنع نتوء على حجرة وفراغ مقابل بنفس الحجم على الأخرى وبالتالي يتم التعشيق .
النوافذ كانت غالباً بجهة ساحة البيت العربي المصيافي القديم حيث على الأغلب هو الجدار الوحيد الذي يحوي نوافذ.أما بناء السقف فكانوا يأتون بعمود خشبي على شكل حرف T يسمى الساموك وهو يصنع من خشب قوي جداً لكي يتحمل الضغط الذي فوقه لذلك الأغلب في مصياف كان يصنع من خشب الجوز والبعض من السنديان ولكن المفضل في مصياف هو الجوز.
كان يوجد في الغرفة الواحدة ساموك واحد ولكن في حال اتساع مساحة الغرفة كان يستخدم أكثر من ساموك .
يوضع فوق الساموك البَدّ وهو عمود خشبي طويل يوضع على جدران البيت (من الجدار إلى الجدار المقابل له) و يساعده في تحمّل الثقل الساموك حيث أن البدّ يتوضّع في عدة نقاط على تيجان السواميك
يكون البد هذا عبارة عن جذوع أشجار أو أغصان أشجار ضخمة يتميز بسماكة معينة ويكون من خشب لا يؤثر فيه سوس الخشب ويكون بقوة كافية لتحمل الضغط
ويوضع فوق البدّ العَرْقة (من كلمة عرق) وهي أيضاً عمود خشبي أقصر من البدّ حيث تتوضّع العرقات بين بدّين متوازيين لتوزيع ثقل السقف على مجموع البدود . وفوق العرقات كانت توضع حصيرة تصنع من القش ثم يمدون القصب فوق العرقات والبدّ ليصبح كالحصير.
ثم يأتون بالبلان (الشوك) ويضعوه فوق القصب ويدوسونه أو يكبسونه حتى يستوي على السطح.
تبدأ الصبة الفعلية حيث يتم إحضار نوع معين من التراب اسمه (طرابة سمّ الموت) وهي تربة لونها أزرق فاتح (على بياض) وهي تربة كتيمة جدا لا تنفذ المياه حيث تفرش هذه التربة بسماكة 10 سم بعد خلطها بالماء ثم يأتي نوع آخر من التربة وهو الحوارة البيضاء التي قد تخلط مع التبن أو تترك كما هي وأيضا بسماكة 10 سم وبعد يأتي تراب عادي من المنطقة المحيطة مجبول مع التبن
طبعا كان يصنع السطح بميل معين باتجاه معين وذلك حتى لا تجتمع مياه الأمطار على السطح فتؤذيه وفي أخفض نقطة من السطح مكان مسيل المياه إليه كان هناك (مزريب السطح) وهو عبارة عن قطعة صغيرة من معدن التنك يبلغ طولها وعرضها عشرة سنتمترات تطوى في الوسط وتوضع في زاوية المنزل الأكثر انخفاضاً وذلك لتؤدي وظيفة تفريغ مياه الامطار المتجمعة وقت هطول المطر لتذهب فيه الى خارج السطح والجدران.
هنا يأتي دور آلة بسيطة هامة جدا في حياة المصيافي وهي المعرجلينة وهي عبارة عن مدحلة حجرية اسطوانية الشكل طولها بين 80 -100 سم وقطرها 30-40 سم يصل وزنها إلى أكثر من 100 كغ وهي الأكثر انتشار في مصياف وهناك معرجلينات أكبر تصل إلى حدود 200 كغ ولكنها تستخدم لرصف الطرق.
تصنع المعرجلينة من صخور المنطقة المحيطة لذلك كان المنتشر في مصياف المعرجلينة البيضاء الكلسية ولكن قد تصنع من البازلت الأسود إن كان متوفرا وهي نادرة في مصياف لأنها تجلب من حمص إن كانت موجودة في مصياف.
يصنع على وجهي الأسطوانة الحجرية الدائرتين ثقب صغير (فرزة) بعرض 2-3 سم وبعمق 5-10 سم وذلك لدخول قوس معدني من الطرفين لجر المعرجلينة من خلالهما وبالتالي تدور المعرجلينة أثناء الجر والدفع لها على السطح.
وظيفة المعرجلينة هي دحل السطح الترابي الحديث التشكيل ورص التربة وسد الفجوات والثقوب الصغيرة لتشكيل سطح متراصٍ ومتماسك عديم الثقوب حتى لاتدخل مياه المطار من خلاله إلى البيت (أي حتى لايدلف السطح).
طبعا المعرجلينة لا تغادر السطح على الغالب في مصياف وتوضع على زاوية السطح حتى يكون ثقلها على الجدران ولا تؤثر على السطح.
لذلك يقوم صاحب البيت مباشرة بعد انتهاء المطر بالصعود إلى السطح و تحديد مكان الدلف فإذا كان الدلف قليلاً يقوم بوضع قليل من التراب ويدحلها أما إذا كان الدلف غزيراً فهنا يقوم بعمل فتحة مكان الدلف في السطح تسمى هذه الفتحة قافعة حيث يقوم بالتنظيف حولها وإزالة الأخشاب المهترئة ووضع خشب جديد وفوقها المراحل السابقة ويقوم بالدحل من جديد إلى أن يسد القافعة كلها وينتهي الدلف.
كما أن السطح بحاجة للصيانة الدورية لذلك تبقى المعرجلينة على السطح حيث في الصيف ومع الحرارة المرتفعة يتشقق السطح وتتشكل أخاديد وثقوب تسمح للمياه بالمرور لذلك مع بداية موسم الشتاء هناك صيانة للسطح ولذلك في هذه الحالة يوجد صيانتان أساسيتان للسطح في بداية الشتاء بسبب الصيف وفي نهاية الشتاء بسبب الأمطار والثلوج.
لذلك تتكون بين المعرجلينة وبين مقتنيها صداقة تدوم ما بقيت هذه القطعة الوفية التي يتوارثها الأهل جيلاً بعد جيل. وكم نسجت عنها حكايات وكم تباهى غير ناسٍ بأداءٍ متميز لمعرجليناتهم.
طبعا السطح أحيانا كان لا يحتمل ثقل الثلج المتساقط قديما على مصياف حيث كان غزيرا فقد كانوا يلاحظون سقوط بعض الأسقف القديمة نتيجة تراكم الثلج وعدم إزالته لأن الغرفة مهجورة.
ولكن الغرفة المسكونة دائما كانت تتعرض لإزالة الثلج المتراكم حتى لايؤثر على السطح بواسطة (المسحاية) وهي عبارة عن قطعة خشبية على شكل مثلث من الأسفل والعصا الخشبية التي تمسك في اليدين لتجريف سطح البيت من الثلج حيث كان يتراكم في تلك الأيام بغزارة شديدة حتى يبلغ ارتفاعه متراً في الليل (تلجة الأربعين) ما يضطر صاحب البيت وأولاده لعملية تعزيل شاقة إلا أنها جميلة جداً فيها كل مظاهر التعاون والمحبة. لذلك هناك مثل أن البيت القديم يموت مع موت صاحبه لأنه يحتاج إلى صيانة دورية.
طبعاً بالغرفة كان في حفرة صغيرة هي الموقدة التي يشعلون فيها النار ويضعون جمراتها في الكانون المتنقل في أرجاء الغرفة مكان تجمع أهل الدار وجلوسهم.
طبعاً الباب وتصنيعه كان من البدائية الشيء الكثير ولكن من الجمال والبساطة الشيء الأكثر فقد كانوا يستخدمون الأغصان كمفصلات للباب . والبرطاش كان يصنع من حجر يصقل بشكل جيد ويوضع على أرضية باب الغرفة والباب يكون دائماً في طرف الغرفة وبقنطرته البسيطة.
ازدهار صقور