هناك سؤال دائم الحضور , وهو لماذا الأبطال متربعون في عرش الذاكرة …؟ .هل لأن ما أقدموا عليه تعجز جموع من الناس عن القيام به , أم أن إنجازهم فيما عجز الآخرون عن بلوغه ,أم أن أفعالهم تقارب الأساطير, وربما هناك أسئلة أكثر من كل هذا ,ولكن البطل لا يبحث عن كل هذا ,فقط يسعى أن يقدم لوطنه شيئاً يستحق روعته وعظمته ,ووفاء لتراب وطنه ,وهذا ما فعله الخالد الذكر الشهيد سليمان الحلبي.
داود أبو شقرا … والصدفة
بداية لم أقرأ شيئاً للكاتب والروائي داود أبو شقرا .. أي عمل روائي أو مسرحي ,وصدفة جمعتني به ,لأكتشف بأنني أمام مثقف من الطراز الرفيع ,إن تكلم بالتاريخ فهو يملك ذاكرة خصبة بقراءة التاريخ بشكل جوهري ,وإن تكلم بالمسرح فهو باحث في المسرح يقدم رؤيا ثاقبة لتطوير الحضور المسرحي بحياتنا الفنية والثقافية ,وبعد أن افترقنا ظل السؤال يطاردني وهو إلى أي حد يتماهى المثقف مع إبداعه ,فهناك كثر من المثقفين يحملون كماً هائلاً من المعلومات والأفكار النيرة والقدرة على التحليل الرصين لقراءة أي مشهد فكري أو فني ,ولكن عندما تقرأ نتاجهم الإبداعي تكتشف البون الشاسع بين الناقد أو المنظر والمبدع للأدب سواء كان روائياً أو قصصياً أو مسرحياً, ولكن الروائي داود أبو شقرا أثبت بأنه خلاف هؤلاء .
سليمان الحلبي …حي بيننا
أبدع داود أبو شقرا رواية ( سليمان الحلبي –العين والمخرز) وهي من إصدارات الهيئة الهامة للكتاب عام 2016,طبعاً لا أعلم متى كتبها ,وذلك لسبب بسيط ,لأن ما تعانيه هذه الأمة من المحيط إلى الخليج يفوق الخيال , الخراب والدمار والقتل هو (للأسف) عنوان هذه المرحلة العصيبة , ولأن داود أبو شقرا يبحث عن شيء يضيء ظلمة هذه الأمة فقد آثر أن يقدم بطلاً يلتف حوله الجميع رغم التنوع الديني والمذهبي والفكري , بطلاً سطر أروع ملحمة بالتاريخ, بطلاً قادماً من مدينة حلب السورية ,يذهب لمصر للدراسة في الأزهر الشريف, ولكن عندما احتل نابليون بونابرت مصر , وصادر الأرزاق والهواء ونكل بوحشية بكل من قاومه ,وبعد فشله أمام أسوار عكا ,أيقن بأن أوهامه بخلق امبراطورية ذهب أدراج الرياح ,هرب ليترك خلفه الجنرال كليبر الذي جرع أهل مصر الذل والهوان ,وكان لا بد من فدائي بطل يقوم بعملية استشهادية و يقتحم عرشه وينزل قصاص الشعب المظلوم والمقهور بجنرال تغوص قدماه بدماء أحرار مصر ,وهذا ما أقدم عليه البطل سليمان الحلبي ,ليطعنه أربع طعنات قاتلة ,وهو مدرك تماما بأن الموت ينتظره وبشكل وحشي ,فقد حكمت عليه المحكمة الفرنسية (هذه عدالتهم التي يتغنون بها) بحرق يده اليمنى ومن ثم عقوبة الخازوق .
ربما كثر منا يعرف تلك الأحداث التاريخية , ولكن الروائي داود أبو شقرا لم يقلب صفحات التاريخ بشكل ممل , بل إنه ذهب بعيداً باستحضار التاريخ وكأنه مشهد معاصر, لقد أسرف الروائي بتوصيف المشاعر التي تنتاب الشباب أمام حالة الذل والانكسار التي يعانيها الشعب المصري أمام محتل مدجج بأحدث الأسلحة ,وشعب أعزل إلا من إرادته ,ينصرف سليمان الحلبي العاشق لفتاة أخت صديقه وابنة صديق والده الذي فتح له بيته وقلبه كي يكون فرداً من هذه الأسرة الغنية بمالها وكبريائها وعزتها ,لأن والد الفتاة تبرع بكل أمواله لشراء بنادق تواجه عدوان المحتل , سليمان الحلبي العاشق لوطنه وحبيبته ,لم ينتظر طويلاً فيما يجب أن يقوم به واعتبر القاهرة هي حلب أو دمشق وأهلها هم أهله وما يصيبهم قد أصابه بمقتله , لقد قدم سليمان الحلبي دمه ليثبت جوهر الحقائق , وهو أن مصير هذه الأمة من المحيط للخليج واحد ,إما رفعة وسمو وإما ( لا سمح الله ) …..وهكذا اندفع دون أن يوحي له أحد بما يجب فعله أمام طغيان المحتل .
رواية …تجيب على أسئلة هامة
بأسلوب بسيط وعميق ,صاغ الروائي داود أبو شقرا عالمه الروائي بحرفية عالية , فقدم صفحات تقرأ بسلاسة وروعه , يبني شخصياته بتنامٍ مذهل في تطور كل شخصية من حال إلى حال , شخصيات تستبسل بالدفاع عما تؤمن به , دون مبالغة في قدراتها ,أو ما تريد فعله , ليس هناك شخصية البطل العنتري (سوبرمان) الجميع أبطال وكل حسب موقعه ومكانته , حتى الشخصيات السلبية تدافع عن ضعفها وترددها ومهادنتها ,عالمه الروائي تخال أنه يتجاوز حدود مصر وكأنك أمام جغرافيا الوطن العربي ,هل حقاً أنت في حلب أم دمشق أم عكا أم القاهرة . إن العين استطاعت أن تكسر المخرز بما تملكه من إرث كبير في المقاومة ومقارعة المحتل عبر تاريخها المغرق بالثراء الروحي والفكري والحضاري ,هي رواية توصف حال أمة نكبت بحكامها المماليك الذين يخططون للهروب من مقاومة المحتل بعد أن جمعوا كل أموالهم ومجوهراتهم ,وعند أول امتحان مع العدو يهربون كالفئران المذعورة ,وهكذا يهب الشعب وحده,الشعب هو والوحيد يهب للدفاع عن الأرض والعرض ,لقد أثار الروائي داود أبو شقرا الكثير من الأسئلة الملتبسة في طيات التاريخ القديم والمعاصر وترك لنا حرية الإجابة .
محمد أحمد خوجة