أحب الفن فوهب له حياته. ولم يستطع أن يضع لحبه نهاية وجداً. فتوحد مع حبه. وهام به عشقاً وغراماً ووجداً… وعاش بقية عمره في صومعة فنه يعطي من قلبه وروحه ووجدانه فناً أصيلاً وإبداعاً مميزاً. حتى غدا علماً من أعلام الفن التشكيلي في القطر العربي السوري.
قمت بزيارة لهذا الفنان في صومعة حبه فوجدته يمارس طقوسه الفنية في محراب إبداعه فقطعت عليه خلوته وفيض إلهامه. فوضع الألوان جانباً وبقيت فرشاة ألوانه بيده. التفت اليّ مبتسماً ابتسامته المعهودة مرحباً بي حسب عادته المألوفة. فكان لي معه هذا اللقاء:
ماذا تعني لك هذه الفرشاة التي بيدك؟
فابتسم وقال:
تعني لي الكثير. فهي رفيقة عمري وصديقة حياتي. وهي المخلصة الوفية التي لا تخذلني ابداً.
فماذا عن الألوان؟
اللون حبي الخالد. وعشقي الأبدي. ولدت مع اللون. وعشت مع اللون. وتعاملت طوال حياتي معه. ومع ذلك لم أستطع الوصول الى سر سحره. وفهم رموزه. وفَك طلاسمه… اللون هاجسي الأول والأخير.. تعاملت معه أكثر من نصف قرن. ومازال اللون بالنسبة لي لغزاً من الألغاز وطلسماً من الطلاسم.. وسحراً من الغيب.. هو فرحي وحزني.. سعادتي وشقائي.. هو آمالي وأحلامي.. يطاوعني فأفرح.. يستعصي عليّ فأتألم.. ويقوم بيننا صراع فأثور وأغضب.. ويبقى اللون هو اللون فلا أعرف من أين أتى وكيف جاء..
إلى هذا الحد يشغلك اللون؟
بل أكثر.. فأنا لا يهمني تحليل الظاهرة اللونية وتفسيرها من الناحية العلمية فهذا أمر متروك للعلماء. بل الذي يهمني ويشغلني ويحيرني هو سحر الألوان! وسحر جمالها! وحيويتها وتفاعلها وتناغمها مع بعضها البعض! فهي تفرح وتحزن وتضحك وتبكي وتتألم وتثور وتغضب وتغني وتتكلم.. فهي كائن حي لها مشاعر وأحاسيس إذا ما مسها عبقري فنان..
وماذا عن الألوان ايضاً؟
منذ أكثر من منتصف قرن وأنا أمارس الفن من خلال اللون.. ذهبت معه في كل الاتجاهات كي اكتشف حقيقته وسحره.. فما زادني ذلك إلا غموضاً.. وكلما ظننت أني اقتربت من الوصول إلى سره ظهر لي فيما بعد أني في وهم كبير وبعيد كل البعد عن ذلك..
لقد تعاملت مع الفن التجريدي. وهو يعتمد على اللون بشكل أساسي. فهل تستطيع القول بأنك وصلت الى شيء من حقيقة اللون وسره من خلال هذا الاتجاه؟
بصراحة لا أدري. ولكن كل الذي أدريه جيداً. أنها كانت تجربة فنية رائعة وجميلة..
استطعت من خلالها التعبير عن ذاتي ومشاعري وأحاسيسي. وإن لم يرض عنها البعض. فحسبي أنني مقتنع بما أعمل. فهل وفقت في ذلك أم لا؟ هذا أمر متروك للزمن..
يقول أحد النقاد: إننا نقرأ في ألوان الفنان نجيبة تلك الحيادية حتى في الأعمال التي يسيطر عليها اللون الأحمر. فما رأيك في ذلك؟
أنا لا أومن كثيراً بتصنيف الألوان إلى ألوان حارة وباردة وحيادية وإن كان لها ظل من الحقيقة العلمية. أنا أعتقد بأن الألوان تعطي حرارتها وبرودتها وحياديتها حسب موقعها ووظيفتها في العمل الفني التصويري.. فاللون الأخضر بقدر ما يوحي بدفء وحيوية الخضرة السندسية بقدر ما يوحي أيضاً ببرودة وسكون أكفان الأطلس الخضراء.. إن الفنان العبقري هو الذي يعطي الألوان من خلال فنه وموهبته و عبقريته الإيحاء بدفئها وبرودتها و حياديتها وجمالها وحيويتها والأمثلة على ذلك كثيرة: ففي لوحة الطفل الباكي للفنان (براغولين) أحال دمعة هذا الطفل من لونها الأبيض الشفاف الحيادي الى لون أبيض حار عندما انسكبت هذه الدمعة من عين هذا الطفل على وجنتيه وكذلك فعل الفنان (رامبرانت) في لوحة ( الفيلسوف في حالة تأمل) فأحال اللون الأبيض الحيادي الذي عبر من النافذة وأضاء وجه الفيلسوف المتأمل إلى لون أبيض يوحي بالدفء والحرارة
يقال: إن أغلب لوحاتك يسيطر عليها اللون الواحد فما رأيك بهذا القول:
حتى أكون دقيقاً في إجابتي. أقول إن اللون الواحد ليس لوناً واحداً كما يظن الكثيرون. بل هو أكثر من ذلك.. فتدرجات اللون الواحد كل منها بمفرده لون. وإني أحاول في لوحاتي أن أخلق تجانساً في اللوحة يتوافق مع التجانس في الطبيعة.. فلا يوجد لون مكرر في الطبيعة. قد تشاهد اللون الأزرق مرة واحدة.. أما ما ستشاهده فيما بعد فهو إحدى تدرجاته..
إذاً: كيف نستطيع تحليل الألوان عند الفنان ودلالتها؟
ليس تحليل الظاهرة اللونية عند الفنان بالشيء السهل وبتلك البساطة التي يتناولها بعض النقاد السطحيين بالتحليل.. فإن تلك الظاهرة تعود الى الكثير من العوامل المتداخلة والمتشابكة. والتي تغوص في أعماق الزمان والمكان في نفس الفنان في الشعور و اللاشعور منذ ولادته وحتى اللحظة التي يتصدى فيها للعمل الفني..
وأخيراً: ما هو موقفك من الألوان؟
كل الألوان جميلة إذا وضعتها في مكانها المناسب في العمل الفني.. أنا أحبها جميعاً بلا استثناء وهي تحبني وبيني وبينها قصة حب وعشق. فهي صديقة عمري ورفيقة حياتي بادلتني الحب بالحب والعشق بالعشق والوفاء بالوفاء ولم تبخل عليّ في يوم من الأيام بالعطاء. فهي حبي الوحيد وعشقي الوحيد وصديقة العمر وهي المبتدأ في حياتي والخبر.
مصطفى الترك