عند رأس السوق، السوق الطويل…
بعد دخلة جامع الشيخ ابراهيم.. حين تجتاز دكان الزين ثم دكان الشوّاف، تستقبلك بعدئذ دكان أبي صانع الأحذية!!
دكان صغيرة، لا واجهة لها ولا باب!..
هناك درفتان من خشب تطويان إلى اليمين، ويكفي أن تفكّ القفل بالمفتاح الكبير فإذا أنت أمام الدكان الصغيرة!.
طاولة مخلّعة يسمونها (التسكة) عليها من المسامير أصناف وأنواع.. إلى جانب الكماشة والشاكوش الرفيع والزردية ومالا عدّ له من أدوات الكندرجية!!.
وتحت الطاولة دلو ماء بلون الطين يطلقون عليه (التيغار)، لا يستغني عنه أبي، فهو يدفع بقطع النعل إليه قطعة قطعة حتى تلين فيسهل عليه خرزها مع الجلد (السختيان)!.
***
مهنة شاقة!
مهنة تحتاج إلى كفّين خشنتين بعقد وأصابع متينة!..
أصابع ورّمها شدّ الخيط المشمع، وموالاة الدقّ على النعل القاسي!
أصابع ماهرة تسحب المخرز بمهارة فائقة بين الغرزة والغرزة!!
***
فضاء الدكان مشغول بنمنمات لا حصر لها…
الجدران تقشرّ كلسها، غدت لوحة فنية أخاذة..
طلاء قديم لونه أخضر، تُرك هناك في الزاوية وألوان متداخلة بين الأزرق والرمادي شغلت سقف الدكان!!.
سيور جلدية تدلّت من رفوف مائلة في صدر الدكان، لا تدري من أين جاءت!! ثم .. ثم القوالب الخشبية التي اصطفت كجنود مستعدين جاهزين، يلبون الدعوة عند قدوم أول زبون!.. ومن يجيء إلى الدكان من زبن غير فلاحي المنطقة من الغرب والشرق، من الشمال والجنوب!!
و.. أبي اشتهر بينهم بحذائه المتين الصامد الذي يتحدّى الحرّ والقرّ ويقاوم الدروب الوعرة والسالكة بصعوبة، الدروب الجبلية والصخرية الصاعدة والنازلة، والأرض المستوية والمنحدرة، يتحدى الفصول الأربعة حذاء لكل الدروب، حذاء لكل الأنواء والتقلبات..
والزبن من فلاحين وعمال وكسبة وشغيلة يأنسون إلى الدكان يحبّون أسئلة أبي البريئة العفوية..
يحبّون أسئلة عن الزرع والضرع، وعن الأجواء والأنواء والمواسم وتعاقب الأيام.
الفلاحون يستريحون أمام (التسكة) المتواضعة، يحدّقون بالرفوف الحانية والأحذية المدلاّة على الجدران بعفوية وبراءة..
هذه الدكان يحبونها، هنا مبتغاهم، هنا يرمون متاعهم يتركون أغراضهم يهمهمون بكلمات لا تبين كلمات مبهمة..
سنرجع الظهر… سنعود بعد العصر … سنقضي أشغالنا ثم نعود إلى الدكان!!
***
والحذاء الذي يخرج من بين يدي أبي له خصوصية وتميزه لدى الزبن القادمين من أبعد قرية في المنطقة.
في الصباح الباكر ينتظرونه قبل أن تفتح الدكان!
سلة صغيرة من تين … أو (قرطل) عنب يتكىء أمام الباب!
خمس عشرة بيضة (بلدية) في منديل أزرق!
سطلة لبن رائب تحت (الدربند) تلك مقدمة للتوصية (!!).
***
الزبن الطيبون يمدون أقدامهم المفلطحة الضخمة..
ينشغل ابي بأخذ مقاساتها…
قلم الكوبيا ينتقل من تحت أذنه إلى أصابعه..
يبل طرفه بريقه.. ثم يخربش فوق كيس ورقي أرقاماً وخطوطاً مبهمة لا يعرفها غيره (!!).
يطير القالب الخشبي من صدر الدكان، مخترقاً الصفوف.
يطير إلى كفيه…
يقلبه وهو يروز بعينيه أصابع قدم الزبون المتورمة غير المنتظمة… ينطق ابي قراره النهائي الخطير!
هذا مقاسك.. تلتمع عينا الزبون بفرح طاغ وهو يرى القالب صورة عن قدميه، سوف يكتسي بالحذاء المنتظر!
تفرد قطعة الجلد.. يسحب النعل..
الزبون راض… وأبي يتناول مقدّم الأتعاب.
أبي يقبّل ظاهر كفه، يرفعها إلى جبينه.. يتهدج صوته: الحمد الله… الحمد الله والشكر لله…!
***
بدأ النهار… والرزق الحلال يترقرق منذ الساعات الأولى… الدكان تضجّ سعادة… تترنح اشياؤها الصغيرة نشوى… تتداخل حنانا ومحبة.. الشغل يفرح القلب.. والزبن لا ينقطعون..
***
أحذية أبي تنتشر من صوران إلى كفرزيتا… أحذية أبي تصل إلى الرستن وإلى حمص… أحذية أبي تقطع سهل الغاب تصعد التلال والنجود… أحذية ابي تتجاوز المغاور والحدود.. تتسلق الجبال.
تمرّ بالمغاور والمسالك الصعبة، تهبط الأودية، تدق الأرض توقظ المكدودين.. تدفع بهم إلى نهارات مضيئة وأحلام مؤجلة.. أحذية مشغولة بعرق الكدح الشريف، معجونة بالمحبة لكل الناس البسطاء.. أحذية تنطلق في كل الدروب لتصل إلى غايتها…
***
زبن كثيرون يطيرون إليها… زبن كثيرون يحملهم الشوق إلى أحذية متينة يقارعون بها صروف الأيام وتقلبات الزمان… ماأسعد أبي بهم، وماأسعدهم به.. والدكان الصغيرة في السوق الطويل لها ذاكرة.. والوجوده الطيبة مرسومة بنعومة وبساطة.. والكلمات تنداح بعفوية وعذوبة.
نزار نجار