يَومٌ شاقٌ حَقًا و واجباتٌ كثيرة، و ها قَد انتهيتُ مِن تَدقيقِ آخرِ مَقالٍ وغدا أرسلها للنشرِ في الجريدة، أمْا الآن فليسَ لي مكافأةٌ على هَذا الإنجاز إلا النَّوم.
نجمة نجمتان ثلاثة… ولدي موعدٌ مع العصافيرِ التّي تطرقُ النافذةَ صباحًا كي تأخذَ قوت يومِها ..
زعمتُ أنّني على زقزقتِها سَأصحو
لكنَّ ما أيقظَني شيءٌ آخر
انفجاراتٌ تتوالى مِن سَماعةِ الهاتف، إنّها ضِحكةُ جارتِنا أمُ محمود
اليوم سوفَ تأتي لزيارتِنا مع صديقاتها
ويدُ أمي الحريرية هزتْ السريرَ بعنفٍ لِتدعوني إلى التعزيلِ والتنظيفِ والتكنيس
إذن اليوم ستتكسرُ فقراتُ ظهري على المَجلى، و يُصَمُ غشاءُ الطبلِ من أحاديثٍ لن نفهمَ مِنها عِبرةً أو معنى، ونختنقُ بدخانِ السجائر الذّي إنّ دلَ على شيءٍ فلن يدلَ إلا على حضارتِهم و ننصرعُ بالسعالِ الناتجِ عنها..
بدأنا في تحضيرِ الوليمةَ لكنّ يا أمي لن تأتي إلينا القبيلة أم أنّك
ترينهنَّ فيلة!
لا يا عزيزتي يجبُ أنّ نقومَ بواجبهنّ.
أتى الضيوفُ الكرام و بدأنا نتحادث عن أطفالِهم اللذيذين،
ونرى مقاطعَ الفيديو التّي يقولون فيها ماما وبابا
يا إلهي ماهذا الذكاء! هل تقولُ دادا أيضاً؟!
طبعاً..
أه .. ياللطفلة الجميلة!
ضجتُهم وحدَها التّي لم تدعني أنعمُ بقيلولةٍ ولا غيبوبة كفيلةٌ بأنّ أصابَ بالجنون
يكادُ الميتُ يَخرجُ مِن قبرهِ عند سماعِ صراخ ابنتِهم الذّي يُشبهُ صوتَ البوق ، فحتى الأموات لا يهنئون بنومِهم الأبدي.
بعد ذلك قامَ بعضُهم للرقص، وتراهم كأنّ إحداهن أصيبتْ بماسٍ كهربائي وأخرى بدأتْ بحركاتٍ جنونية، تجحظُ عيناك ويَفغَرُ فوك مصدوماً حتى تنتهي الرقصة..
أمّا بعضهم الآخر فكان يشربُ القهوةَ، وإذ بفتاةُ سكبتْ الفنجانَ على السجاد والكنبة وكسرتهُ
والجميعُ شعرَ بخوفٍ شديد وبدأتْ الأصواتُ تتعالى: هل أصابَكِ مكروهٌ… ؟لم تحترقي الحمدُلله..!
في الحقيقة.. لم تحترقْ ولكنّ أنا من أشعرُ أنّني في جهنمَ الحمراء
وبعد أنّ انتهوا من ذاك وضعنا لهن الطعام، هجموا عليه وكأنّهن لم يروه منذ عشرين عاماً والتهموا كلَ شيء
ثم بدأنَ يبدين الملاحظات « مالحٌ .. يحتاجُ طهيا أكثر..»
يا إلهي لم يعجبهن وكادوا يأكلون الأطباقَ أيضا !
ذهبتُ إلى غرفتِي فرأيتُ الأطفالَ يلعبون في مكتبتي اللطيفة وهنا كنت أنسية وصرتُ جنية ، فقد مزقوا الكتابَ الذّي أهدانيه جدي
تأبطتُ شرًا و احمر وجهي كأنّه طماطم
فأخذتْ أختي الأطفالَ المشاغبين إلى غرفةٍ أخرى كي لا أموتَ قهرًا، فهي تعرفُ كلَ المعرفة أنّ هذا الأمرَ فَاقَ استطاعتي وأنّني لم أعدْ أطيق العودة إلى استقبال أمهاتهم.
جلستُ أمامَ نافذتي كما أفعلُ كلَ مساء، فرأيتُ طفلاً يجرُ العربةَ وكأنّه لم يوّفقْ في البيعِ اليوم، فقد كانت البضاعة على حالِها كما رأيتُها صباحًا
لم يذقْ اللحمَ منذ مدةٍ طويلة، فهو يأكله مرةً كلَ عام كما أخبرني مرة
ثيابه رَثه و مهترِئة و لم يدخل المدرسة، ويكفي المرء ألما أنَّه حُرِمَ مِن حق التعلمِ، وذهبَ للعمل منذ نعومةِ أظافرِه التّي تكسرتْ واسودتْ لتكون وصمةَ عارٍ على جبينِ الإنسانية.
كلُ ما يَهمُه أنّ يجمعَ ما يكفي لشراءِ كسرةِ خبز،
ذلكَ الوجهُ البائس سيأكلُ الخبزَ اليابس هذهِ الليلة إنّ لم نفعلْ شيئا
، ولكنّ الحمدُ لله قَدْ وصلَ ابنُ جارِنا في الوقتِ المناسب وأعطاهُ من خبزهِ الذّي يحملهُ
جزاهُ اللهُ خيرا وجبرَ فؤادَهُ المكسور الذْي أُرهقَ، ولم يَعُدْ يَدفَعُه لمواصلةِ العمل شيءٌ سوى أنّه اعتاد فعلَ ذلك
فبعد جهدٍ جهيد حصلَ على ثمنِ خاتم لحبيبتهِ التّي كانت جالسة مع هؤلاء الفارغات، فقد تزوجت من أحدِ الأغنياء
قاسيةٌ هي الحياة، متناقضةٌ حدَ البكاء، ففي هذا البناءِ ذاتهِ الذّي يتعالى منهُ ضجيجُ الرقصِ والضحكِ، كنتُ أسمعُ أنيناً خافتاً ولكنَّ صوتَ الطبلِ أعلى من صوتِ الناي فلم يسمعهُ أحد ، أو ربما سُمِعَ لكنّ الاحتفال السعيد لايناسبهُ شجيٌ كهذا ، لذلك فلنتجاهله وكأنّه لم يكن..
هنا في هذا العالم، في زاويةٍ بائسةٍ قريبةٍ منّا، تَرقدُ عيونٌ أعماها البكاء وأنهكها التمني وليس لها إلا الله!
حلا حبال
كلية الآداب ـ جامعة حماة