ينطوي تحت اسم الفن عدة أنواع من الأعمال التي تحمل مزايا خاصة تتميز بها عن غيرها , و كل عمل راعى قواعد جمالية متفقاً عليها و بخبرة من قام به , ارتقى بمفرداته إلى مراتب عليا و استحق بجدارة اسم العمل الفني , فالرسم و الغناء و العزف و نظم الأشعار و النحت و التمثيل و غيرها , كلها أنواع فنية , و لكل منها خصائصه , و عبر الزمن برع في كل مجال منها أشخاص درسوا و أبدعوا و استحقوا كلمة فنان أو بلغة أصح ( مفن ) , لذلك و بالعموم و مما تقدم نستنتج أن العمل الفني يحتاج إلى دراية و صبر و تميز , و قدرة خاصة باستخراج مفاتن الأنواع الفنية و أسرارها و من ثم تقديم القوالب الفنية بشكل متميز و فريد , أي أن هنالك صعوبة فيما يسمى الإبداع , الذي يأتي بنظريات جديدة تعطي للأعمال الفنية جمالية غير معتادة ولكنها مقبولة، وتظهر عناصر الأعمال بحلل جديدة تلفت إليها نظر المتلقي ، لذلك وفي الماضي ، كان التميز حكراً على كل مجتهد وعلى كل من راهن على الوقت الطويل ونذر حياته لتقديم الأفضل ، فمثلاً عند قيام الموسيقار محمد عبد الوهاب رحمه الله بإحياء أول حفل فني له بحلب بعد أن ذاعت شهرته ، لم يحضر تلك الليلة في المسرح المخصص إلا قلة قليلة توزعوا على المقاعد متناثرين، مما دفع محمد عبد الوهاب للاستغراب لما سمع عن حلب وحبها للفن ،ومع ذلك قدم فنه المعهود وانتهت الليلة، لكن الاستغراب لم يفارقه وإشارات الاستفهام كثرت أمامه، حتى وجد لها إجابات شافية في اليوم التالي بعدما علم بأن المسرح احتشد بغزارة والتهبت الصالة بالتحيات، وأدرك فيما بعد أن العدد القليل الحاضر في الليلة الأولى هم نخبة مخصصة يطلق عليها اسم (السميعة) أو ما يماثل(شيخ الكار) الذي إن شهد لك بالدقة والإتقان جاز لك ممارسة العمل، وكانت (السمعية) هي سبب لاكتظاظ الصالة في اليوم التالي , أما السبب الأساسي فهو إتقان وقدرة وفن محمد عبد الوهاب الذي دفعه لذلك التميز، ودانت له العلامات الموسيقية بعد خبرة طويلة وعمل وجهد جم .
أما النشوة الفنية التي كانت تولد في حفلاته فدفعت أحد الحاضرين في ذات مرة و بمنتصف السهرة الفنية أن يقف و ينتزع قبعته و يضربها بالأرض صارخا بكل قواه : ( كفاية كده يا ظالم ) ، بالطبع الكلام موجه للموسيقار عبد الوهاب ، الذي قدم فنا لم يدع إلى الخشوع الذي هو قمة الانحياز الروحي ، بل تجاوزه و مزق أغلفة السكينة لأن حدوده كانت أقصى منها بكثير، لذا فإن ما يفعله الفن الحقيقي بالنفس والبدن لا يقدر على فعله أي مؤثر آخر، فلربما خلق الفن قبل الإنسان وهذا ما ساعد على وجود محبته في جبلة البشر ، وهذا ما دعا لاكتشاف مقطوعات موسيقية تساعد على الشفاء من أصعب الأمراض ، أو لوحات فنية فاق سعرها حد الخيال، أو نصوصا أدبية خلدت كتابها ودفعت النسيان بعيدا عن أسمائهم ، الفن عنوان الحضارة وحافظ سمات الوجود الإنساني ، وبقدر فرحنا وسعادتنا بما ذكرنا , نحن غير متفائلين بما يقدم الآن على ما أطلق عليها اسم الساحات الفنية ، وإن كانت نسب الجودة ضئيلة جداً ، فبين ليلة وضحاها يقفز إلى الشاشات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة أشخاص لا يحكمهم التميز بأقل بنوده، ويقدمون على أنهم فنانون أو (……) و يحشرون بأنوفنا , وإن تملكتك القدرة على متابعتهم لنصف ساعة بأقصى تقدير، تحس بالخراب اندس إلى ذائقتك الفنية ، وطال التخريب عيونك وآذانك ومخيلتك، فأصبح ما يقدمونه ، ولا أجرؤ أن أسميه فناً، مقتصرا على كلمات مبتذلة تمرر على أجهزة لتحضير اللحن -على سبيل المثال- خلال دقائق، تجهز بعدها مكبرات صوت خاصة موصولة بمصفيات حديثة ، لتحد من هنات الصوت المؤدي , لتعرض بعدها والمؤدون يسبحون في الماء , أو فوق سرير وثير أو وهم ملفوفون بشراشف ملونة، لأن الثياب أصبحت موضة قديمة ،هذا ما تساعد عليه شركات الإنتاج التي توجه إليها أصابع الاتهام حول مصادر أموالها وأهدافها , وهي التي تساعد أيضاً على تقديم الممثلين الجدد ، أو بالأحرى الممتثلين لأوامرها وأوامر ملاكها بعد أن أصبحت مهنة التشخيص- سابقاً – التمثيل حاليا ً، حكرا لأشخاص صنعت لهم قوالب خاصة ، إن ارتضوها كانت تلك الشركات لجانبهم ، وفازوا هم بمحبة المشاهدين والمتفرجين من هذا الجيل .
ومما زاد الطين بلة، و بسبب ذاك القبول , أصبح الفنانون الجدد – ولا تؤاخذونا – يزيدون شروطا على تلك القوالب , بحجة راحة الفنان والحفاظ على حالته في مستوى معين , طبعا ليستطيع إتحافنا بفنه .
دعوا الفن لأهله وامتثلوا لرغباته وقوانينه , واتركوا أصحاب الاختصاص يدثرونا بآرائهم وبحرصهم , وبعملهم الجدي , بتقديم الأفضل ورفض البذيء , لا تفرضوا حالة الدلال في الفن , ولا تقوضوا ثقافتنا , فالتاريخ لا يرحم أحدا ولا يساوم بالبقاء والخلود , ولابد له من غربلة يختار من خلالها الأفضل ويطفئ نور من حاز على النور بغير حق .
إعداد : شريف اليازجي