لكل أمة رموزها في المجالات كافة، والبحث في الرمز بحث فلسفي عميق ليست هذه الزاوية مكانه. نقرأ بعض المقالات، ونتابع بعض البرامج، ولاسيما في الآونة الأخيرة، فنتعجب من جرأة كثيرين على تناول رموز الأمة تناولاً برانياً وسطحياً، بقصد الإساءة حيناً، أو التبجيل المبالغ فيه أحياناً أخرى، مع أن هؤلاء المتطاولين على الرموز لا يملكون الكفاءة، ولا الكفاية، التي تخولهم الخوض في هذا المجال. ورفع شخص ما إلى مستوى الرمز في مجال من المجالات لا يجعله فوق النقد النزيه. فنحن نحترم الرموز الإيجابيين لكن لا نبرئهم من الخطأ، أما الرموز السلبيون فننبذهم ونلعنهم ونستعيذ بالرحمن منهم.
وتحول شخص ما إلى رمز في مجال من المجالات يعد دليلاً على حب الناس له (وتقديرها) لأعماله وإنجازاته وليس لشكله أو أصله وفصله. وبالعكس فقد يكون دليلاً على مقتها ونفورها وإدانتها لسلوكه وتصرفاته، إن كان رمزاً للشر والخيانة والظلم. وإذا انتقلنا إلى مشكلة الرمز في مجالات الفنون والآداب فسنلاحظ كيف تم رفع بعضهم إلى مستوى الرمز في هذا الجنس الأدبي أو ذاك، مع صعوبة ذلك، لأن الحكم في هذه المجالات يعتمد في جانب كبير منه على الذوق (ولا مناقشة في الأذواق)، وعلى كل من يتناول الشاعر أو الفنان بالنقد أن يبرر آراءه ويسوغها لا أن يطلق الكلام على عواهنه انطلاقاً من موقف (أحب ولا أحب)، أو بناء على ما سمعه من آبائه وجيرانه من مواقف لا علاقة لها لا بالشعر ولا بالفن ولا بالأدب، ولا تصمد أمام النقد النزيه. لذلك فإن إضفاء صفة الرمز على شخص ما في الفن والشعر والأدب ليس بسهولة اختيار الرموز في المجالات الأخرى، ولعل في هذا ما يجعلنا نفهم تناقض المواقف، ففي حين يتم رفع بعض الشعراء إلى مستوى الرموز يهبط بهم آخرون إلى ما دون ذلك بكثير. وأسوأ النقاد من يهب الألقاب ويوزع المراتب بناءً على مواقف قادمة من خارج معايير الشعر، لأسباب سياسية أو أيديولوجية.
بقي أن أقول: إن في تجربة أي شاعر من الشعراء الكبار جوانب فنية لا يمكن إنكارها، وفيها ما هو عديم القيمة فنياً، وهذه حالة الشعراء جميعاً وعند الأمم كافة. فحبنا أو كرهنا لتجربة شعرية معينة لا تعني شيئاً، كل ما في الأمر أننا في هذه الحالة لن نكون نزيهين ولا منصفين.
كثيرون لا يحبون سلوك المتنبي ولكنهم لا يستطيعون القول إنه شاعر غير مهم. وإنه ليس رمزاً من رموز الشعر العربي، والأمر نفسه ينسحب على أحمد شوقي وبدوي الجبل وسعيد عقل والجواهري وسواهم، ولكننا نجانب النزاهة إذا قلنا إن هؤلاء ليسوا شعراء مهمين (مع تفاوت فيما بينهم بطبيعة الحال) بحجة أن لأحدهم مواقف سياسية لا تعجبنا، أو لأنه قال كذا وكذا من الشعر متوسط المستوى فما دون، فكل الشعراء لديهم الأمر نفسه، ولا يمكن أن يكون الشاعر، أي شاعر، خالقاً بارئاً مصوراً على غير مثال في كل ما يصدر عنه. وهذا الكلام ينسحب على الشعراء في جميع اللغات.مرة أخرى أقول إن اللبس قد يحصل نتيجة الظن أن الرمز فوق النقد وعلى حق دائماً، وننسى رموز الشر والخيانة والظلم والانحطاط.
كلامي ليس رداً على أحد وإنما هي وجهة نظر قد تكون صحيحة وقد تكون خاطئة.
محمد راتب الحلاق