في يوم ماطر ووسط انشغالي وانغماسي في تفكيري العميق وشرود ذهني قاطعني شيء أثار فضولي, عجوزٌ في السبعينات من عمره جالس وسط المطر الغزير يحمل مظلته وبيده كيس من فتات الخبز اليابس ينتظر الطيور بكل لهفة وأملٍ رغم أنه يعلم أن من المستحيل وجود طيور في المطر, كان مبتسماً طوال الوقت فلم تكن هذه أول مرةٍ أراه فيها ففي كل يوم عند رجوعي من المدرسة أراه جالساً في نفس المكان وبنفس الوضعية وكنت في كل مرة أرى فيها ابتسامته يعطيني جرعة أمل وتفاؤل كبيرة دون معرفة سبب ابتسامته حتّى, كان مَبْسَمُهُ نبع جمالٍ رغم كبر سّنه وعلامات الشيب والتجاعيد واضحة فقد خطت السنون على وجهه التجاعيد ورسمت علاماتها وآثارها عليه فبالرغم من هرمه وإرهاقه من الحياة ومتاعبها إلاّ أنه مازال سعيداً, كنت دائماً أتساءل عن السبب وراء جلوسه هكذا وعن سر ابتسامته المشرقة ولطالما فكرت في سؤاله إلاّ أنني لم أستطع لخشيتي من التدخل بحياته الشخصية وبأسراره, وما زادني فضولاً هو جلوسه وسط المطر لإطعام الطيور رغم علمه باستحالة وجودها وعدم يأسه من قدومها وكثرت الأسئلة داخل رأسي وتقاربت داخل عقلي إلى أن استجمعت قواي وقررت الذهاب إليه ليروي ظمأي وتعطشي لسماع قصته ويجيب عن كل تلك التساؤلات وهذا مادار بيننا:
طاب يومك ياجدّي!
ويومك ياابنتي! تفضلي ياعزيزتي هل بإمكاني مساعدتك بشيء؟؟
استميحك عذراً ياجدي ولكن هل بإمكاني الجلوس بجانبك والتحدث قليلاً؟؟
ـ بالطبع يا ابنتي تفضلي بالجلوس!
لقد كان كلامه مفعماً بالنشاط وكأنني أتكلم إلى شخص في العشرينات كانت ملامحه عندما رآني آتية إليه سعيدة جداً أشعرتني بالطمأنينة والارتياح لذا استطعت الحديث معه بأريحية ودون قلق وخوف واكتراث لأي عواقب لفعلتي هذه , جلست بقربه ومن ثم بادر بالحديث قبل أن أستطيع النطق بأي شيء وكأنّه يقرأ أفكاري ويتغلغل داخل دماغي ويسمع صوت حديثي الداخلي.
لقد رأيتك يا بنتي عدّة مرّاتٍ هنا وأعلم سبب مجيئك إليّ فقد كنت في كل مرّةٍ أراك ألاحظ ملامح الاستغراب والتساؤل, وفي كل مرةٍ ترينني هنا تحاولين المجيء بعد شرودٍ وتفكير عميق ولكنك تغيرين رأيك وتتراجعين لتعودي أدراجك.
لاتقلقي ياصغيرتي لست أول من يأتي ويسألني هذه الأسئلة المعتادة يا إلهي!! كيف عرفت كل هذا ؟؟!! هل كنت داخل عقلي أم ماذا ياجدي؟؟ هل تمتلك قدرة قراءة الأفكار ؟؟ !! أأنت بطلٌ خارق ياجدّي!!
ضحك الرجل وتعالت أصوات قهقهته وكأن شخصاً ما قد قام بدغدغته بشدة فقد كانت كلماتي فيها نبرة من استغراب الأطفال لشدة تفاجئي فلا أستطيع لومه على ضحكه هذا.
لا .. لا يابنتي لست بطلاً خارقاً ولكنني اعتدت على تلك النظرات المليئة بالتساؤلات ففي كل مرة أرى شخصاً ينظر إلي بتلك الطريقة أعلم أنه سيأتي وسيسألني نفس الأسئلة.
إذاً.. هل يمكنك إجابتي ياجدّي ؟؟ لمَ تجلس كل يوم هنا في نفس المكان والابتسامة لاتفارق وجهك وتطعم الطيور حتى وإن كان الجو ماطراً وأنت تعلم أنه لاطيور في المطر أعلم أن أسئلتي كثيرة ولكن هل لك أن تجيبني؟
حسناً ياعزيزتي سأجيبك سأروي لك قصتي, عندما كنت شاباً يافعاً في عمر الزهور أي مايقارب الـ 28 أحببت فتاة كانت جميلة لا لا.. بل كانت فائقة الجمال كان كل همي في الحياة هو أن أستطيع تأمين مستقبلٍ لائقٍ كي يقبل والدها بتزويجي منها وبالفعل بعد اتصال دام أربع سنوات استطعت تأمين كل ماطلبه والدها رغم عدم طلبها لشيء سوى التقدير والاحترام منّي, وأن أعاملها كوردة رقيقة ناعمة وأن أخاف ذبول هذه الوردة فيذهب عطرها وسحرها الآخاذ.. وتزوجنا.. كانت تلك اللحظة أسعد لحظة في حياتي ولكنها لم تدم طويلاً.. فقد ذبلت وردتي وأصيبت بأخطر مرضٍ عرفته البشرية قاتلٌ صامت, مجرم تسلل إلى جسدها وأنهكها وأخذ من صحتها وعافيتها إلى أن استسلمت له.. كافحت وناضلت إلى أن فقدت تلك الشكيمة التي كانت تمتلكها للتغلب عليه.. أتعبها.. أتعبها ذلك المجرم يابنتي..!
غرغرت عيناه بالدموع وفاضت مدامعه وأخذت تسيل على خدّيه معبّرة عن حزنه وألمه بادَرْتُ بمسح دموعه ولكنني لم أستطع مسح قلبه الباكي أن ترى الحزن والدموع والنحيب في وجوه من كنت لاتراهم إلا ضاحكين مبتسمين فهذا بحد ذاته مؤلم.. حزنت حزناً شديداً رغم أنه لم يكمل مابدأ بالحديث عنه وبكيت معه لا إراداياً وسألته بصوت خافت يرتجف من البكاء.
ـ من هو .. من هو ذلك المجرم الخسيس الذي قتلها ياجدّي؟؟
ـ السرطان إنه سرطان الدم ياجميلتي! مرضٌ لايجب تسميته إلا بـ (الموت البطيء).
ـ رحمها الله ياجدي كانت مناضلة وقوية جداً لتستطيع مقاومة مثل هذا المرض… لاتقلق ياجدي هي الآن بأيدٍ أمينة هي سعيدة الآن أنا متأكدة ..حَلَمْتُ للحظةٍ ثم سألت:
ـ ولكن ياجدي لم تقل لِمَ تأتي هنا كل يوم؟؟
ـ ما أجملك .. أنت تشبهينها كثيراً وكأنني أراها أمامي.. تشبهينها بحبك للمعرفة وكرهك للغموض ابقي هكذا يافتاتي ابقي جميلة هكذا ولاتدعي أحداً يلوث قلبك. كافحي وناضلي في وجه أعدائك لآخر نفس في حياتك!
منذ وفاتها وأنا آتي إلى هنا كل يوم لم أغب ولا يوماً من أيام السنة فهذا المكان هو ذاته الذي كنا نجلس فيه أنا وهي في فترة خطوبتنا كانت أجمل ذكرياتي معها هنا.. كانت ابتسامتها رفيقتي في دربي وطريقي المعتم شمعتي في أشد أيامي ظلمة كنا نأتي إلى هنا حتى بعد زواجنا نطعم الحمام كانت تحب الحيوانات حباً جماً كانت عطوفة جداً عليها وكأنها المسؤولة عن جميع الحيوانات في الكوكب.
ولهذا .. ولهذا تأتي إلى هنا كل يوم لإطعام الحمام حتى في الأيام الماطرة لتستعيد لحظاتك الجميلة معها وتبقى مبتسماً لجمال ذكراها كان صوتي يرتجف بشدة من البكاء الشديد فقصته أثرت بي كثيراً كانت تجسيداً للإخلاص والحب والوفاء، والنضال في وجه المرض والمحاربة في سبيل التغلب عليه كان حبه لها مبيناً على احترام وتقدير بل أكثر من ذلك كما طلبت منه قبل زواجهما وبالفعل استطاع تحقيق مطالبها والتغلب على مصاعب ومطبات الحياة لأجلها, هذا هو الحب الصادق الحب الذي يستطيع كسر جميع حواجز الألم وتخطي جميع عقبات الحياة حضنته باكية ثم أردفت قائلة:
لاتحزن ياجدي سآتي إليك كل يوم إلى هنا وسنطعم الطيور سوية هل يمكنني فعل ذلك ؟؟ أم أنك لاتحبني ! وضحكت ضحكة خفيفة, ابتسم الجد قائلاً: وهل يمكنني رفض طلب فتاة طريفة مثلك ! بالطبع أقبل وستكونين لي خير مؤنس وخليل.
شهد هندي