أطلت سيرة الصعاليك لأول مرة على العامة – غير المختصين بالشأن الثقافي – في عام 1988 م ، من خلال المسلسل الدرامي ( صعاليك لكن شعراء ) ، إخراج تيسير عبود ، سيناريو و حوار طه شبلي ، و فيه لعب دور الشنفرى ، الممثل المصري محمود مسعود ، و تأبط شرا ، الممثل أحمد عبد العزيز ، حينها استحوذ المسلسل على نسب مشاهدة عالية ، كان – يومها – السبب الأهم في ذلك ، شهامة الصعاليك ، و أفعالهم ، و بعض سيرهم التي وصلت بالتواتر ، كما يبدو أن الشنفرى حظي بالنصيب الأكبر من المحبة ، لأنه جمع الفروسية والشهامة ، و تميز بسرعة الجري ، التي لا يجاريه أحد ، و كيف كان يخبئ المياه في بيض النعام ، و يدفنه برمل الصحراء الشاسعة ، عند نقاط علام لا يعرفها غيره ، ليرتوي منها حين الحاجة ، و كانت هي سبب مقتله بعدما كشف أمرها ، هذا الشنفرى ، كانت له قصيدة عصماء ، تعد مرجعا كاملا في اللغة العربية ، أطلقوا عليها اسم ( لامية العرب ) ، لتميزها ، و جزالتها ، و جماليتها ، و صورها البديعة ، فهل نعرف شيئا عنها و عن ناظمها ؟
الشنفرى
اختلفت المصادر في دقة اسمه و تاريخ ميلاده و وفاته ، و كان الاسم الأقرب للدراسات العامة : ثابت بن أواس (وليس أوس ) الأزدي ، و أواس ابن من أبناء حجر بن الهنوء الأزدي، والمعروف بالشنفرى ، وهو شاعر جاهلي، من فحول الطبقة الثانية ، و الشنفرى تعني لغة : غليظ الشفاه ، و هذا يرجح أن أخواله من الأحباش ، بعض الروايات قالت إن الشنفرى اسمه الحقيقي ، أما و فاته فروايات تقول 525 م أو 510 م ، وأخرى تزعم قبل الهجرة بسبعين عاماً ، رويت حول الشنفرى أقاويل كثيرة ، فيها بعض المبالغة ، لكن كان توجهه للصعلكة يعود إلى أنه اكتشف بعمر الشباب قتل والده في الزمن الماضي ، و أن من يربونه ليسوا بأهله ، حيث أخذوه أسيراً ، و هم قتلة والده ، فاتجه ليشق عباب الصحراء ، حالفا أنه سيقتل مئة منهم ، لكن قاتله أسيد بن جابر السلاماني ، لم ينوله ذلك ، فقتله بعدما قضى الشنفرى على ( 99 ) من القوم ، و تقول الروايات أن حلمه تحقق بعد وفاته ، حيث تعثر واحد من القوم بجمجمة الشنفرى ، فمات متأثراً بجرحه العميق ، فكان للشنفرى ما أراد ، و هنا نسأل : من هو الصعلوك ؟ فنقول الصعلوك لغة هو الفقير الذي لا يملك المال كي يساعده على العيش ، وتحمل أعباء الحياة ، وأطلقت – بصيغة الجمع – على الخلعاء الشداد ، وهم الذين خلعتهم قبائلهم بسبب أعمالهم التي لا تتوافق مع أعراف القبائل ، أو على أبناء الحبشيات السود ممن نبذهم آباؤهم ، ولم يلحقوهم بأنسابهم ، أو على من احترف الصعلكة احترافاً ، وحولها الى ما يفوق الفروسية ، و كلها صفات تنطبق على الشنفرى .
قصيدته اللامية
كثرت الآراء حول القصيدة ، في محاولة لنسبها لغير الشنفرى ، لكن بالنهاية كانت النتيجة لصالحه ، اعتمادا على أسلوب النظم ، و من أسباب منعها عنه ، أنه لم يذكر الأماكن فيها ، القصيدة جزلة بامتياز ، جميلة بمحبة الشعراء ، راقية بشهادة النقاد ، الذين أشاروا لصورها البديعة ، و لنحويتها الغزيرة ، و قد ترجمت للغات كثيرة ، و حفظت كمخطوطة بأكثر من متحف ، لا تقل شـأنا عن المعلقات ، لكن لأسباب اجتماعية لم تعلق على سور الكعبة ، تتضمن ثمانية وستين بيتا من البحر الطويل ، ففي مطلع القصيدة يهيئ الشنفرى للرحيل عن أهله لا رحيلهم هم عنه، ويشير هنا إلى أنَّه يميل إلى قومٍ غير قومِهِ أحسن جيرةً ومعاشرة ، و هم قوم الوحوش بالبرية ، فيقول :
لَعَمْـرُكَ مَا بِالأَرْضِ ضِيـقٌ على امْرِىءٍ
سَرَى رَاغِبَـاً أَوْ رَاهِبَـاً وَهْوَ يَعْقِـلُ
وَلِي دُونَكُمْ أَهْلُـون: سِيـدٌ عَمَلَّـسٌ
وَأَرْقَطُ زُهْلُـولٌ وَعَرْفَـاءُ جَيْـأَلُ
هُـمُ الأَهْلُ لا مُسْتَودَعُ السِّـرِّ ذَائِـعٌ
لَدَيْهِمْ وَلاَ الجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْـذَلُ
و هنا دليل على عبقرية الشنفرى ، فإن لكلمات : سيد، عملس ، وأرقط وزهلول ، و جيأل ، لها دلالات قد تخدم تكثيف الصورة وإبراز المشاهد وتعميق الإحساس بالحركة واللون معاً ، و اللامية فيها من بدائع الوصف ما يكفي ، فالوصف في الشعر هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات ، أو الإخبار عن حقيقة الشيء ، و بالعادة يكون الوصف ، إما أسلوباً للشاعر ، أو لغرض في القصيدة يخدم المنحى العام ، كالترميز بصورة معينة ، في دلالة على باطن مراد ، و من أجمل صور الوصف فيها ، وصفه للقوس و السهم عامة ، و لحظة الإطلاق ، فقال أحد النقاد : لا أعلم أحداً وصف القوس بهذه الصفة غيره ، يقصد بذلك الوصف قوله صفراء عيطل ، و أنين القوس عند إطلاق السهم ، كامرأة فقدت وليدها ، حيث قال :
ثلاثة أصحاب: فؤاد مشيع
وأبيض إصليت وصفراء عيطل
هَتُـوفٌ مِنَ المُلْـسَ المُتُـونِ تَزِينُـها
رَصَائِعُ قد نِيطَـتْ إليها وَمِحْمَـلُ
إذا زَلَ عنها السَّهْـمُ حَنَّـتْ كأنَّـها
مُـرَزَّأةٌ عَجْلَـى تُـرنُّ وَتُعْـوِلُ
أيضا
و من أجمل الصور في اللامية ، تصويره للذئاب المنتشرة في البرية ، حيث جماليتها تكون في تركيب الصورة ، و انتزاعها من البيئة ، و كأنها فوتوغراف حقيقي .
الصور و العبر كثيرة في القصيدة ، لكن العبقرية الشعرية و اللغوية حاضرة فيها و بكل زاوية منها ، و هذا ما جعلها من أمهات القصائد و أعظمها ، و سنذكر بعض أبياتها :
أَقِيمُـوا بَنِـي أُمِّـي صُـدُورَ مَطِيِّـكُمْ
فَإنِّـي إلى قَـوْمٍ سِـوَاكُمْ لَأَمْيَـلُ
فَقَدْ حُمَّتِ الحَاجَاتُ وَاللَّيْـلُ مُقْمِـرٌ
وَشُـدَّتْ لِطِيّـاتٍ مَطَايَـا وَأرْحُلُ
وَإنّـي كَفَانِـي فَقْدَ مَنْ لَيْسَ جَازِيَاً
بِحُسْنَـى ولا في قُرْبِـهِ مُتَعَلَّـلُ
وَأغْدو خَمِيـصَ البَطْن لا يَسْتَفِـزُّنيِ
إلى الزَادِ حِـرْصٌ أو فُـؤادٌ مُوَكَّـلُ
وَلَسْـتُ بِمِهْيَـافٍ يُعَشِّـي سَوَامَـه
مُجَدَّعَـةً سُقْبَانُهـا وَهْيَ بُهَّـلُ
فإنْ تَبْتَئِـسْ بالشَّنْفَـرَى أمُّ قَسْطَـلٍ
لَمَا اغْتَبَطَتْ بالشَّنْفَرَى قَبْلُ أطْـوَلُ
وَيومٍ مِنَ الشِّعْـرَى يَـذُوبُ لُعَابُـهُ أفاعِيـهِ فـي رَمْضائِـهِ تَتَمَلْمَـل
شريف اليازجي
ُ